إبراهيم في الإِنجيل
بعد هذه الحياة الرائعة، انتقل إبراهيم إلى الرفيق الأعلى، فأي إنسان لا يرى الموت؟ عاش إبراهيم مئة وخمساً وسبعين سنة، غنية بالاختبارات العميقة مع الرب. وبعد أن جاهد، أسلم روحه بين يدي الإِله الذي عرفه وأحبه وعبده، وكأنه يقول للّه: "في يديك أستودع روحي". أسلم روحه للرب، وهو يحيا كل يوم في طاعة له، ومات بشيبة صالحة. فقد كان صالحاً في حياته، ومات شيخاً وشبعان أياماً، و"انضم إلى قومه" كما تقول التوراة. لم يكن جسده قد انضم إلى قومه، إذ أن إسحق وإسماعيل دفناه في مغارة المكفيلة، ولم يكن بها غير سارة زوجته، لكن المقصود أنه انضم إلى قومه بالروح، أي إلى جماعة الأبرار الساكنين في السماء منذ تكوين العالم. وبارك الرب إسحق كما وعد إبراهيم.
يحتل إبراهيم في الإِنجيل مكانة كبيرة، أرجو أن نتأمل بعض ما جاء عنه.
إبراهيم رأى المسيح:
قال السيد المسيح عن إبراهيم لشيوخ اليهود: "أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ" (يوحنا 8:56 - 59). لم يرَ إبراهيم المسيح بالرجاء فقط، ولم يرَ المسيح بالإِيمان فقط، لكنه رآه في الجسد، عندما قطع معه العهد، ورآه عندما جاء إلى بيته ضيفاً ومعه اثنين من الملائكة، ورآه رمزاً في ذبيحة إسحق، في الكبش الذي افتداه، ورآه في نور المواعيد. نعم، لقد رأى إبراهيم المسيح، وفرح وتهلل، لأنه رأى فيه خلاص العالم وخلاص نفسه، وفرح بالخلاص وتهلل بالفداء الذي بالتضحية والكفارة. اغتاظ اليهود من المسيح عندما قال إنه موجود من قبل وجود إبراهيم، وإنه بذلك يقول إنه أزلي. فرفعوا حجارة ليرجموه.. مساكين، يقولون إنهم أولاد إبراهيم لكنهم لا يؤمنون كما آمن إبراهيم، آمن إبراهيم وخلص، وكل الذين قبلوا المسيح أعطاهم اللّه سلطاناً أن يصيروا أولاد اللّه، أي المؤمنون باسمه (يوحنا 1:12).
إبراهيم تبرر بالإِيمان:
يتحدث رسول المسيحية بولس في الأصحاح الرابع من رسالته إلى كنيسة روما عن إبراهيم، فيقول إنه قد تبرر أمام اللّه بإيمانه (رومية 4:1 - 3). والتبرير هو البراءة من الخطية ومن أجرة الخطية. تبرر إبراهيم من الخطية ومن أجرتها بالإِيمان. وجد التبرير بالإِيمان بالقلب وليس بالعمل - عمل الجسد. لأنه إنْ كان إبراهيم قد تبرر بالأعمال فله الفخر، وكل من يتبرر بالأعمال يقدر أن يفتخر لأنه نال الخلاص بقوته وصلاحه وتقواه، مع أن الرب يقول: "لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلَاحاً لَيْسَ وَلَا وَاحِدٌ" (رومية 3:12). لكن إبراهيم نال البراءة بالإِيمان فقط. آمن إبراهيم باللّه فحُسب له إيمانه براً. حسب اللّه إبراهيم باراً، واعتبره باراً، وعامله معاملة الأبرار، كل هذا لأنه وضع ثقته في اللّه وآمن. والخلاص ليس من أعمال كي لا يفتخر أحد (أفسس 2:9).
آمن أيها القارئ العزيز بعمل المسيح لأجلك. إن عملك لا يخلّصك، لكن إيمانك بالفداء هو الذي يخلصك. آمن تخلص كما آمن إبراهيم فخلص وتبرر أمام اللّه. ويمضي رسول المسيحية بولس فيقول إن إبراهيم كان ابن مئة سنة عندما ولد إسحق. كانت كل الظروف تظهر أن ولادة إسحق مستحيلة. كانت سارة عجوزاً في التسعين، وكان هوفي المئة. كان رحم سارة عاجزاً عن حمل الحياة، حتى قالت هي: "أَبَعْد فنائي يكون لي بنين؟". لكن إبراهيم على خلاف الرجاء البشري آمن على رجاء الوعد الإِلهي أن يصير أباً لأمم كثيرة. وصدَّق كلمة اللّه، وتيقَّن أن ما وعد اللّه به هو قادر على أن يفعله أيضاً (رومية 4:21). لهذا أقام اللّه حياة من ميت. ومن رحم سارة وُلد إسحق.
ونحن نؤمن أن اللّه أقام يسوع المسيح من الأموات، الذي أُسلم من أجل خطايانا وقام من الأموات لأجل تبريرنا (رومية 4:25). وكل من يؤمن بقيامة المسيح يحسب له اللّه إيمانه براً، كما حسب إيمان إبراهيم له براً.
عزيزي القارئ، هل تؤمن بقيامة المسيح؟ هل قمت أنت مع المسيح من موت الخطية؟ آمن به وضع ثقتك فيه ليقيمك اللّه مع المسيح من موت خطيتك.
الإِنجيل يقول إن المؤمنين أولاد إبراهيم:
يتحدث رسول المسيحية بولس في الإِنجيل، وهو يكتب رسالة إلى أهل غلاطية (3:6 - 14) عن أن المؤمنين أولاد إبراهيم. المؤمنون هم نسل إبراهيم الروحي، وهم ينالون البركة التي نالها إبراهيم حسب القول الإِلهي لإِبراهيم: "تتبارك فيك جميع قبائل الأرض، وأيضاً إبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية، ويتبارك به جميع أمم الأرض. إذاً الذين هم من الإِيمان يتباركون مع إبراهيم المؤمن". لقد قال السيد المسيح: "إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَات" (متى 8:11). وكل من يقبل المسيح المخلص يصبح ابناً لإِبراهيم المؤمن، وينال التبرير الذي ناله إبراهيم، لأن البار بالإِيمان يحيا.
الإِنجيل يلخص حياة إبراهيم:
في رسالة العبرانيين نقرأ ملخصاً لحياة إبراهيم أنه عاش بالإِيمان. يقول: "بِالْإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثاً، فَخَرَجَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي" (عبرانيين 11:8 - 11). خرج حسب أمر اللّه له. عاش غريباً لأنه كان ينتظر المدينة المؤسسة التي صنعها اللّه، التي هي سماء المجد. كان إبراهيم يقدر أن يعود إلى البلد التي خرج منها. كان يقدر أن يستريح من الأتعاب والسفر والغربة والسكن في الخيام، لكنه اختار التعب لأنه آمن بكلام اللّه. كان إبراهيم ينتظر الوطن الأفضل السماوي، فاحتمل التعب. بالإِيمان قدم إسحق على الجبل وهو مجرَّب. قدم إسحق الذي قبل فيه المواعيد. قدم وحيده. قدمه مع أن اللّه سبق أن قال له: "بإسحق يُدعى لك نسل". لكنه كان يعلم أن اللّه يقدر أن يقيم إسحق من الأموات ولو مات. نعم، آمن إبراهيم، والإِيمان هو الطاعة، والمؤمن هو المطيع. إن إيمانك يظهر في أعمالك، والإِيمان الذي بدون أعمال ميت، لأنه إيمان خارجي بدون ثمر. هل أنت مؤمن؟ هل أنت مطيع؟ "إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ" (يوحنا 7:17).
إبراهيم تبرر بالأعمال أيضاً:
قال رسول المسيحية يعقوب إن إبراهيم الذي تبرر بالإِيمان، تبرر أيضاً بالأعمال (يعقوب 2:21 - 24). قد يبدو هناك تناقض بين كلام الرسول بولس وبين كلام الرسول يعقوب، لأن بولس يقول إن إبراهيم تبرر بإيمانه، بينما يقول الرسول يعقوب إن إبراهيم تبرر بأعماله. غير أننا عندما ندرس ما كتبه الرسول بولس عن تبرير إبراهيم بالإِيمان، نرى أنه كان يشير إلى ما جاء في الإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين، بينما كلام الرسول يعقوب عن تبرير إبراهيم بالأعمال يشير إلى ما ورد في الأصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين، عندما قدم ابنه ذبيحة كما طلب الرب. إذاً الرسول بولس والرسول يعقوب يتكلمان عن حادثتين مختلفتين: تبرر إبراهيم أمام اللّه بالإِيمان، لأن اللّه يرى قلب المؤمن ويبرر كل من يؤمن. وتبرر إبراهيم أمام الناس بأعماله، لأن الناس لا يرون إلا العمل الظاهر. وقد ظهر إيمان إبراهيم لما رفع السكين ليذبح ابنه. الإِيمان هو الذي جعل إبراهيم يقبل أن يذبح ابنه، وهو الذي دفع إبراهيم للطاعة. الإِيمان المطلوب إذاً هو الإِيمان العامل بالمحبة.
يقول الرسول يعقوب إن الإِيمان يشبه الروح والأعمال تشبه الجسد. لا يستطيع أحد أن يرى الروح، لكن نستطيع أن نرى الروح داخل الجسد. هل إيمانك عامل؟ أو هل هو مثل إيمان الشياطين الذين يؤمنون ويقشعرون لكنهم لا يتغيرون؟
كن ابن إبراهيم المؤمن - الذي وضع ثقته الكاملة في اللّه، والذي أطاع اللّه، فكان إيمانه الإِيمان العامل.
- عدد الزيارات: 15725