الله يشجع إبراهيم
رأينا كيف حدثت مخاصمة بين لوط وإبراهيم، ولكن إبراهيم انتصر بالتسامح والمحبة. وحين هجم كدر لعومر على سدوم وأخذ لوطاً مسبياً، لم يترك إبراهيم ابن أخيه، بل سار وراءه حتى أنقذه وأرجعه إلى مكانه، ورفض هدية ملك سدوم في ثقة ورفعة، ثم رجع إلى مكانه بعد أن أنقذ لوطاً. وبدأ إبراهيم يفكر في نفسه وأحواله، وشعر باليأس. نعم كانت هناك ظروف كثيرة تضايقه.
حارب إبراهيم كدر لعومر وهزمه، وأخذ الغنائم منه، ولا بد أن كدر لعومر وأصحابه يرجعون ليحاربوا إبراهيم. وبدأ إبراهيم يشعر بالخوف بعد الانتصار.. من يعلم، قد ينقلب أهل المكان ضده ويحاربونه مع كدر لعومر. إذاً كيف يكون الحال؟ لم يكن إبراهيم مستريحاً بعد الانتصار في الحرب.
ثم إن إبراهيم كان في ضعف روحي. منذ عشر سنوات ترك بلاده وجاء إلى كنعان طاعة لأمر الرب، وقال الله له إنه سيجعل نسله كتراب الأرض، حتى إذا استطاع أحد أن يعُدَّ تراب الأرض يعدّ نسله. لكن الوقت مضى ولم يتحقق هذا الوعد. نعم، إن الله وعَدَه، وكرر له الوعد، لكن الله أطال أناته.
ثم كان إبراهيم يعيش في وحدة. لوط ابن أخيه تركه. حتى بعد أن أنقذه من السبي لم يرجع معه. لم يكن هناك صديق لإبراهيم يحكي له أحواله ويشاركه اختباراته. وبسبب هذه الظروف شعر إبراهيم بالخوف والضيق.
أنا ترس لك:
ولكن لا يمكن أن يترك الله أولاده في يأسهم وخوفهم. فتقول لنا التوراة: "بَعْدَ هذِهِ الْأُمُورِ صَارَ كَلَامُ الرَّبِّ إِلَى أَبْرَامَ فِي الرُّؤْيَا: "لَا تَخَفْ يَا أَبْرَامُ. أَنَا تُرْسٌ لَكَ. أَجْرُكَ كَثِيرٌ جِدّ" (تكوين 15:1).
عفي هذه الكلمات نرى تشجيعاً ثلاثياً لإبراهيم.
التشجيع الأول "لا تخف". ولقد تكرر هذ الوعد في الكتاب المقدس نحو ثلاثمائة وخمساً وستين مرة. كأن الله يقول لنا مرة كل يوم "لا تخافوا" - "لَا تَخَفْ لِأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي. إِذَا اجْتَزْتَ فِي الْمِيَاهِ فَأَنَا مَعَكَ، وَفِي الْأَنْهَارِ فَلَا تَغْمُرُكَ. إِذَا مَشَيْتَ فِي النَّارِ فَلَا تُلْذَعُ، وَاللَّهِيبُ لَا يُحْرِقُكَ. لِأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ مُخَلِّصُكَ" (إشعياء 43:1 - 3). وكل مؤمن يأتيه صوت من اللّه يقول: لا تخف من المستقبل المجهول لأن الرب معك. لا تخف من الأعداء لأن الذين معك أكثر من الذين عليك. لا تخف من العوز والاحتياج لأن أباك السماوي يعلم ما تحتاج إليه من قبل أن تسأله. لا تخف من الحيات والعقارب البشرية لأن كل قوة العدو لا تضرك بشيء. ما دمت مع اللّه فإنك في أمان.. لا تخف.
وهناك تشجيع ثانٍ يقدمه اللّه لإبراهيم "أنا ترس لك". هذا هو السبب في عدم الخوف. إن الرب ترس لإِبراهيم يحميه ويحفظه. والترس هو قطعة خشب مغطاة بالجلد، يمسكها الجندي بحزام من الخلف ليتلقّى عليها سهام العدو، فلا تصيبه. وعندما تضايق داود من الأعداء الذين قالوا له: "ليس لك خلاص بإلهك". قال: "أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَتُرْسٌ لِي. مَجْدِي وَرَافِعُ رَأْسِي" (مزمور 3:1 - 3). وقد حفظ اللّه إبراهيم حتى انكسرت كل سهام العدو على الترس الحافظ.
وكان هناك تشجيع ثالث. قال اللّه لإِبراهيم: "أجرك عظيم جداً". كان إبراهيم قد سامح لوطاً وأعطاه فرصة أفضل. كان قد أنقذ لوطاً من السبي، ورفض هدية ملك سدوم. واللّه ليس ظالماً حتى ينسى تعب المحبة. وقد جاء ميعاد إعطاء إبراهيم أجرته، فإن اللّه لا بد أن يجازي كل واحد حسب عمله.
إيمان إبراهيم يُحسب له براً:
في وقت الضيق قال الله لإبراهيم: "لا تخف يا إبراهيم، أنا ترس لك. أجرك عظيم جداً". فتساءل: "أين أجرتي؟ إن كل ما عندي من مال وبهائم سيأخذه أليعازر الدمشقي الوكيل الذي عندي". وقال إبراهيم للرب: "إِنَّكَ لَمْ تُعْطِنِي نَسْلاً، وَهُوَذَا ابْنُ بَيْتِي وَارِثٌ لِي" (تكوين 15:3). ولكن الرب قال إن أليعازر لا يرثك، بل الذي يخرج من أحشائك هو يرثك. وأخرج اللّه إبراهيم إلى خارج الخيمة وقال له: "انْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ وَعُدَّ النُّجُومَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعُدَّهَا". ثم قال له: "هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ" (تكوين 15:5).
عزيزي القارئ، الذي ينظر إلى النجوم يرى بينها أشعة نور آتية من نجوم أخرى أبعد، فلا يقدر أحد أن يعرف عدد النجوم بالضبط. وتقول التوراة إن إبراهيم آمن بكلمات الرب له، وصدَّق وعده مع أن سارة وصلت إلى سن اليأس. آمن باللّه فحسب إيمانه براً (تكوين 15:6)، فليس بار ليس ولا واحد، لكن اللّه يحسب الإنسان باراً، لأنه يحسب لنا برّ المسيح. كان اللّه موضوع إيمان إبراهيم، وكانت كلمة اللّه أساس إيمان إبراهيم. وجاء برُّ إبراهيم نتيجةً لإِيمان إبراهيم، بعد أن حسب له اللّه إيمانه براً.
اللّه يدخل في عهد مع إبراهيم:
في اليوم التالي جرى حديث آخر بين اللّه وإبراهيم. قال اللّه لإِبراهيم: "أَنَا الرَّبُّ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أُورِ الْكِلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هذِهِ الْأَرْضَ لِتَرِثَهَا" (تكوين 15:7). وفي شجاعة الإِيمان سأل إبراهيم: "بماذا أعلم أني أرثها؟" لم يكن هذا السؤال سؤال الشك الذي يحتاج إلى برهان، لكنه كان سؤال الثقة التي تطلب الشرح. فجاوب اللّه إبراهيم جواباً لطيفاً عامراً بالمحبة، باللغة التي يفهمها إبراهيم. لقد دخل اللّه في عهد مع إبراهيم بطريقة ذلك الزمان. قال اللّه لإِبراهيم: "خُذْ لِي عِجْلَةً ثُلَاثِيَّةً وَعَنْزَةً ثُلَاثِيَّةً وَكَبْشاً ثُلَاثِيّاً وَيَمَامَةً وَحَمَامَةً" (تكوين 15:9). وأخذ إبراهيم هذه كلها وشقَّها من الوسط، وجعل شقَّ كل واحد مقابل صاحبه، أما الطير فلم يشقه... وكان الناس في زمان إبراهيم يقطعون العهود مع بعضهم بطريقة خاصة. هي الطريقة التي طلبها اللّه من إبراهيم، فقد كانوا يقسمون كل ذبيحة إلى نصفين، ثم يمشي كل من يدخل العهد وسط القطع. وكانوا يقصدون أن يقولوا إن الذي يكسر العهد يتقطع كما تقطعت الذبيحة. وقد فعل إبراهيم ما أمره اللّه به: شقَّ الذبائح من وسطها، ووضع كل نصف مقابل النصف الآخر، أما اليمامة والحمامة فلم يقطعهما إلى نصفين، لكنه وضع اليمامة في جانب والحمامة في جانب آخر. وجلس بجوار الذبائح ينتظر. كان لا بد أن يأتي الرب ويسير بين القطع. وكان المفروض أيضاً أن إبراهيم يسير بين القطع ليدخل الله وإبراهيم في عهد معاً.
لكن النهار الطويل مضى دون أن يحدث شيء. تُرى ماذا قال إبراهيم في نفسه؟ هل ظن أنه يسير وراء أوهام؟ هل ظن أن اللّه لا يحقق وعده؟ لا بد أنه طرد تلك الأفكار الشريرة التي جاءت إلى رأسه. وعند المغيب نام نوماً عميقاً ورأى رؤيا، رأى ظلمة شديدة واللّه يتكلم معه ويعلن له المستقبل: إن نسله الكثير سيذهب إلى أرض غريبة، وهناك يكونون عبيداً مدة أربعمائة سنة، لكن اللّه يدين الأمة التي تستعبد الشعب، ويكافئ نسل إبراهيم. واستيقظ إبراهيم من نومه، وعندها تمم اللّه عهده، فقد جاء تنُّور دخان ومصباح نار ليجوز بين قطع الذبائح... إذاً فقد دخل اللّه في العهد مع إبراهيم، فإن النار رمز حضور اللّه.
تلاحظ أيها القارئ الكريم أن إبراهيم لم يمشِ بين القطع، فقد كان العهد بين إبراهيم وبين اللّه من جانب واحد فقط. اللّه هو الذي يدخل في عهد مع الإِنسان - ماذا يستطيع الإِنسان أن يفعل مع اللّه، إلا أن يقبل حب اللّه؟ وهذا ما قاله المرنم داود: "مَاذَا أَرُدُّ لِلرَّبِّ مِنْ أَجْلِ كُلِّ حَسَنَاتِهِ لِي؟ كَأْسَ الْخَلَاصِ أَتَنَاوَلُ، وَبِاسْمِ الرَّبِّ أَدْعو" (مزمور 116:12، 13).
عزيزي القارئ، ندعوك أن تقبل الخلاص الذي يقدمه اللّه لك، بقلب شاكر ونفس مؤمنة وسعيدة.
- عدد الزيارات: 4711