نبوة حبقوق
المشكلة الاساسية
"1اَلْوَحْيُ الَّذِي رَآهُ حَبَقُّوقُ النَّبِيُّ: 2حَتَّى مَتَى يا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟ 3لِمَ تُرِينِي إِثْماً وَتُبْصِرُ جَوْراً وَقُدَّامِي اغْتِصَابٌ وَظُلْمٌ وَيَحْدُثُ خِصَامٌ وَتَرْفَعُ الْمُخَاصَمَةُ نَفْسَهَا؟ 4لِذَلِكَ جَمَدَتِ الشَّرِيعَةُ وَلاَ يَخْرُجُ الْحُكْمُ بَتَّةً لأَنَّ الشِّرِّيرَ يُحِيطُ بِالصِّدِّيقِ فَلِذَلِكَ يَخْرُجُ الْحُكْمُ مُعَوَّجاً. 5"اُنْظُرُوا بَيْنَ الأُمَمِ وَأَبْصِرُوا وَتَحَيَّرُوا حَيْرَةً. لأَنِّي عَامِلٌ عَمَلاً فِي أيامكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ بِهِ أن أُخْبِرَ بِهِ. 6فَهَئنذَا مُقِيمٌ الْكِلْدَانِيِّينَ الأُمَّةَ الْمُرَّةَ الْقَاحِمَةَ السَّالِكَةَ فِي رِحَابِ الأرض لِتَمْلِكَ مَسَاكِنَ لَيْسَتْ لَهَا. 7هِيَ هَائلةٌ وَمَخُوفَةٌ. مِنْ قِبَلِ نَفْسِهَا يَخْرُجُ حُكْمُهَا وَجَلاَلُهَا. 8وَخَيْلُهَا أَسْرَعُ مِنَ النُّمُورِ وَأَحَدُّ مِنْ ذِئابِ الْمَسَاءِ وَفُرْسَانُهَا يَنْتَشِرُونَ وَيَأْتُونَ مِنْ بَعِيدٍ وَيَطِيرُونَ كَـالنَّسْرِ الْمُسْرِعِ إلى الأَكْلِ. 9يَأْتُونَ كُلُّهُمْ لِلظُّلْمِ. مَنْظَرُ وُجُوهِهِمْ إلى قُدَّامٍ وَيَجْمَعُونَ سَبْيا كَـالرَّمْلِ. 10وَهِيَ تَسْخَرُ مِنَ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءُ ضِحْكَةٌ لَهَا. وَتَضْحَكُ عَلَى كُلِّ حِصْنٍ وَتُكَوِّمُ التُّرَابَ وَتَأْخُذُهُ. 11ثُمَّ تَتَعَدَّى رُوحُهَا فَتَعْبُرُ وَتَأْثَمُ. هَذِهِ قُوَّتُهَا إِلَهُهَا". 12أَلَسْتَ أَنْتَ مُنْذُ الأَزَلِ يا رَبُّ إلهي قُدُّوسِي؟ لاَ نَمُوتُ. يا رَبُّ لِلْحُكْمِ جَعَلْتَهَا وَيا صَخْرُ لِلتَّأْدِيبِ أَسَّسْتَهَا. 13عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أن تَنْظُرَا الشَّرَّ وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إلى الْجَوْرِ فَلِمَ تَنْظُرُ إلى النَّاهِبِينَ وَتَصْمُتُ حِينَ يَبْلَعُ الشِّرِّيرُ مَنْ هو أَبَرُّ مِنْهُ؟ 14وَتَجْعَلُ النَّاسَ كَسَمَكِ الْبَحْرِ كَدَبَّابَاتٍ لاَ سُلْطَانَ لَهَا. 15تُطْلِعُ الْكُلَّ بِشِصِّهَا وَتَصْطَادُهُمْ بِشَبَكَتِهَا وَتَجْمَعُهُمْ فِي مِصْيَدَتِهَا فَلِذَلِكَ تَفْرَحُ وَتَبْتَهِجُ. 16لِذَلِكَ تَذْبَحُ لِشَبَكَتِهَا وَتُبَخِّرُ لِمِصْيَدَتِهَا لأَنَّهُ بِهِمَا سَمِنَ نَصِيبُهَا وَطَعَامُهَا مُسَمَّنٌ. 17أَفَلأجل هَذَا تَفْرَغُ شَبَكَتُهَا وَلاَ تَعْفُوعَنْ قَتْلِ الأُمَمِ دَائماً؟"
نبوة حبقوق – الفصل 1
لقد صارت كلمة مشكلة شائعة جدا في أيامنا هذه هناك مشاكل تتعلق بحياة الأفراد والمجتمعات والدول والحضارات. لدينا في عالم اليوم مشاكل اقتصادية وأخرى ثقافية وأخرى دولية، مشاكل هنا ومشاكل هناك! وإذا ما تمعنا في بحثنا لمشاكل الدنيا لابد لنا من الاقرار بأنها في لبها مشاكل فرعية. هذا لا يعني انها بدون قيمة أو انه من العبث السعي في ايجاد حلول لها.
لكن البحث الجيد في مشاكل العالم ذات الابعاد المختلفة يقودنا – كما ألمحنا – إلى القول بأنها مشاكل فرعية. وإذا ما وصلنا إلى هذا الاقرار لابد لنا من القول آنئذ انه هناك مشكلة اساسية جوهرية مبدئية. وهذه هي مشكلة الشر!
ومهما اختلف الناس في معتقداتهم وآرائهم فهم يتفقون على القول بأنه هناك شر في عالمنا وان الشر هو منبع سائر المشاكل التي تعكر صفو الحياة. طبعا، أن الناس لا يتفقون في تعريف ماهية الشر أو مصدره. لقد اختلفوا منذ القديم في هذا المضمار وجاؤوا بتفاسير عديدة لا يسعنا الآن أن نذكرها. ونود البحث الآن في موقف المؤمن بالله من موضوع مشكلة الحياة الاساسية. فالمؤمن بالله يعتقد من قرارة قلبه ويشهد امام الملأ بأن الله الواحد الحقيقي هو اله صالح وقدوس وانه يكره الشر ويعمل من أجل خير الإنسان. ولكن المؤمن الذي يقر بهذا المعتقد الجوهرى يجد نفسه امام معضلة كبيرة. انه لا يدرى كيف أن الشر يعبث بالناس في عالم الله! كيف يسمح الله وهو الاله القدير، كيف يسمح للشر بأن يسيطر على الكثيرين من البشر؟ كيف؟ ولماذا؟
وعندما يسأل المؤمن هكذا أسئلة فانه لا يكون قد ترك إيمانه بالله. فهو كمؤمن لا يزال إنسانا عاقلا يتمتع بموهبة التفكير وهو يحاول أن يفهم أمورا عديدة تتعلق بعالمه ولاسيما بموضوع الشر. وأسئلته تنبع من قلب مؤمن وحائر في نفس الوقت، وهو اذا ما سأل اسئلته وتساءل عن موضوع الشر يكون قد سار في طريق سار عليه أنبياء الله الأتقياء من قبل.
عاش في القرن السابع قبل الميلاد في البلاد المقدسة نبي اسمه حبقوق. وقد حفظ لنا الله تعالى في كتابه المقدس سفر نبوة حبقوق. وقد بحث هذا النبي بصورة خاصة في موضوع مشكلة الحياة الاساسية أي في موضوع الشر والأشرار.
كان الكلدانيون في تلك الأيام يعيشون في القسم الجنوبي من بلاد ما بين النهرين وكانوا يشكلون قوة سياسية عسكرية تهدد البلدان المجاورة. وقد اشتهروا في التاريخ القديم ببطشهم بالناس وبعدم اكتراثهم بحقوق البشر ومصالحهم الشرعية. وإذ رأى حبقوق موجة الكلدانيين التي كانت آتية على أرضه ووطنه وشعبه وإذ حاول بأن يفهم لماذا سمح الله لهم بأن يعبثوا بالأرض فسادا رفع هذا الدعاء إلى الله وقـال"2حَتَّى مَتَى يا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟ 3لِمَ تُرِينِي إِثْماً وَتُبْصِرُ جَوْراً وَقُدَّامِي اغْتِصَابٌ وَظُلْمٌ وَيَحْدُثُ خِصَامٌ وَتَرْفَعُ الْمُخَاصَمَةُ نَفْسَهَا؟ 4لِذَلِكَ جَمَدَتِ الشَّرِيعَةُ وَلاَ يَخْرُجُ الْحُكْمُ بَتَّةً لأَنَّ الشِّرِّيرَ يُحِيطُ بِالصِّدِّيقِ فَلِذَلِكَ يَخْرُجُ الْحُكْمُ مُعَوَّجاً"
ومن المهم الملاحظة بأن النبي حبقوق لم يكن كغيره من المفكرين والفلاسفة الذين عاشوا في أيامه أوبعد أيامه حتى يومنا هذا، فما أكثر الذين كفروا وانكروا الله أوشكوا في صلاحه وحكمته ومحبته وقداسته – عندما تأملوا في موضوع الشر! كان حبقوق مفكرا رزينا وفيلسوفا مؤمناً – أن شئنا أن تستعمل هكذا عبارات لوصف شخصيته الفذة. طبعا كان فوق كل شيء وقبل كل شيء نبيا استلم دعوته الخاصة من ربه ومخلصه الله. وكما كتب احد علماء التفسير"لم يتذمر حبقوق على الله، ولكنه تذمر إلى الله. انه لم يسأل: لماذا انتصر الشر، ولكنه كان يسأل: متى سينتهي طغيان الشر؟ سؤاله لخص بكلمتين: حتى متى؟"
فعندما نجابه ونواجه معضلات الحياة المتعددة وعندما نحاول حل المشكلة الاساسية أو الجوهرية (أي مشكلة الشر). علينا أن نقتدى بالنبي حبقوق! علينا أن لا نتذمر على الله بسبب الشقاء والتعاسة والبؤس وكل هذه الأمور المؤلمه التي تقض مضجع الناس في عالمنا المعذب. علينا أن لا نتذمر على الله بل أن نسكب قلبنا امامه تعالى وان نأخذ اليه جميع اسئلتنا والهواجس التي تقض مضجعنا. علينا أن لا نشك في صلاح الله وعدله وقوته ومقدرته وسلطته عندما نسعى بأن نفهم لماذا ينجح الأشرار ويتعظمون ويبطشون بالناس وينكلون بهم. مهما حدث وصار، علينا أن نتشبث بالإيمان بالله القدير والصالح. لكنه ليس من الخطأ أو عدم الإيمان بأن نسأل كما سأل حبقوق النبي: حتى متى يارب؟ هذا السؤال هو سؤال مؤمن لا سؤال من وقع فريسة الصنمية.
بعد أن سكب النبي قلبه امام ربه والهه جاءه جواب الرب كما يلي:
""اُنْظُرُوا بَيْنَ الأُمَمِ وَأَبْصِرُوا وَتَحَيَّرُوا حَيْرَةً. لأَنِّي عَامِلٌ عَمَلاً فِي أيامكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ بِهِ أن أُخْبِرَ بِهِ. 6فَهَئنذَا مُقِيمٌ الْكِلْدَانِيِّينَ الأُمَّةَ الْمُرَّةَ الْقَاحِمَةَ السَّالِكَةَ فِي رِحَابِ الأرض لِتَمْلِكَ مَسَاكِنَ لَيْسَتْ لَهَا"نعم اجاب الله القدير، الصالح اجاب عبده ونبيه حبقوق وافهمه بأنه سمح للكلدانيين بأن يقوموا بتلك الأمور بين الناس من أجل تأديب العالم.
سمح الله لهؤلاء الوثنيين بأن يقوموا بكل ذلك لتأديب الناس. هذا ما سمعه النبي حبقوق من فم الله. ولكن هذا الوحي الإلهي أوجد مشكلة كبيرة للنبي. نعم أن إيمانه قد تقوى لأنه رأي بأن الله كان هو المسيطر على الموقف حتى وان كانت جيوش الكلدانيين تزحف على البلاد. لكن لماذا، لماذا سمح الله لهكذا اناس بأن يؤدبوا غيرهم وهم لا يعترفون بالله؟ كيف يستعمل الله القدير هكذا بشر وهم قد نسوه وألهوا قوتهم العسكرية؟ لماذا؟ لم يبق حبقوق النبي هذه الافكار ضمن قلبه بل استمر في حواره مع الله وقال بكل تواضع"12أَلَسْتَ أَنْتَ مُنْذُ الأَزَلِ يا رَبُّ إلهي قُدُّوسِي؟"نلاحظ كيف أن النبي تعلق قبل كل شيء بأزلية الله. الله هو هو لا يتغير، أمس واليوم وإلى الأبد. وهو الذي كان قد أبدأ حقبة جديدة من التاريخ عندما دعا عبده وخليله إبراهيم أبا المؤمنين ووعده بأن تتبارك بنسله جميع أمم وشعوب الأرض. يبقى الله امينا على مواعيده مهما صار وحدث في دنيانا هذه.
وكذلك قال حبقوق النبي"إلهي قُدُّوسِي؟"وهذا يعني أن إيمانه كان إيماناً شخصيا حيا فعالا، لا إيماناً سطحيا عقيما. هذا الاله السرمدى، الازلي، القدوس، خالق السماء والأرض ورب العالمين، هو إلهي، قدوسي! يا لها من كلمات عذبة! يا لها من كلمات شافية لكل شك وتردد ونظرا لهذه الشهادة القلبية فإن النبي استمر في حديثة قائلا"لاَ نَمُوتُ. يا رَبُّ لِلْحُكْمِ جَعَلْتَهَا وَيا صَخْرُ لِلتَّأْدِيبِ أَسَّسْتَهَا. 13عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أن تَنْظُرَا الشَّرَّ وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إلى الْجَوْرِ فَلِمَ تَنْظُرُ إلى النَّاهِبِينَ وَتَصْمُتُ حِينَ يَبْلَعُ الشِّرِّيرُ مَنْ هو أَبَرُّ مِنْهُ؟"
وجه النبي هذا السؤال الأخير لله لأنه كان يثق بأن الله صالح وقدوس وطاهر.. ولكنه لم يفهم ما ظن بأنه"صمت الله"في دنيانا هذه... اراد جوابا في الحال!
وما جابهه حبقوق في أيامه انما كان أيضاً اختبار المؤمنين عبر بالأجيال المتعاقبة. ونحن أيضاً، نحن ابناء القسم الأخير من القرن العشرين، نحن أيضاً نجابه بصورة كبيرة ذات الموضوع. لماذا يسمح الله للأشرار بأن يعيثوا في الأرض فسادا؟ ولكنه هناك عامل كبير علينا أن نأخذ بعين الاعتبار ونحن نفكر في موضوعنا هذا. نحن نعيش في ظل النظام الجديد – بمقتضى التوقيت الإلهي. نعم التاريخ بأسره يقسم إلى قسمين: ما قبل الميلاد وهي أيام النظام القديم، اما أيام ما بعد الميلاد فانها أيام النظام الجديد. لدينا ضوء أكثر وضوحا من النور الذي تمتع به الناس في أيام النبي حبقوق. لدينا النور الذي بزغ في دنيانا هذه عندما جاء مسيح الله للقيام بعمله الانقاذى، التحريرى الفدائي الخلاصي.
وفد المسيح عالمنا وعاش في الأرض المقدسة وكان يعلم الجموع ويشفي المرضى ويقيم الموتى. ولكن حياته انتهت بشكل مريع – حسب ما ظهر لمدة من الزمن. فقد طلب زعماء الشعب من الاجنبي المحتل بأن يصلب المسيح وبالفعل صلب المسيح له المجد فوق أكمة خارج القدس كانت تعرف بأكمة الجمجمة. وظن الكثيرون – حتى تلاميذ المسيح – ظنوا بأن الشر قد انتصر على موفد الله وأن ملكوت الله قد أصيب بنكسة هائلة.
لكن الغلبة لم تكن للشر! لقد قام المسيح من الأموات واظهر بذلك فشل اعدائه واعلن اندحار قوى الشر والهلاك. ولقد ارسل رسله الأوفياء للمناداة بالخبر المفرح للغاية. النصر في النهاية هو دائما لله ولقوى الخير والصلاح. النصر هو لكل إنسان يؤمن بالمسيح وبما أتمه له المجد من أعمال خلاصية لصالح الإنسان المعذب.
وهكذا نقول: ليس لدينا مشكلة أو معضلة اساسية بدون حل. فالمسيح جابه الشر وقضى عليه. الغلبة هي لسائر المؤمنين والمؤمناًت! عندما نجابه نحن هذه المشكلة في معترك الحياة لنقتدى بالنبي حبقوق ونشهد معه قائلين لله"12أَلَسْتَ أَنْتَ مُنْذُ الأَزَلِ يا رَبُّ إلهي قُدُّوسِي؟"
نهاية الشر أكيدة
"1عَلَى مَرْصَدِي أَقِفُ وَعَلَى الْحِصْنِ أَنْتَصِبُ وَأُرَاقِبُ لأَرَى ماذا يَقُولُ لِي وَماذا أُجِيبُ عَنْ شَكْوَايَ. 2فَأَجَابني الرَّبُّ: "اكْتُبِ الرُّؤْيا وَانْقُشْهَا عَلَى الأَلْوَاحِ لِيَرْكُضَ قَارِئها 3لأَنَّ الرُّؤْيا بَعْدُ إلى الْمِيعَادِ وَفِي النِّهَايَةِ تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَكْذِبُ. أن تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَاناً وَلاَ تَتَأَخَّرُ. 4"هوذَا مُنْتَفِخَةٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ نَفْسُهُ فِيهِ. وَالْبَارُّ بِإيمانهِ يَحْيَا. 5وَحقاً أن الْخَمْرَ غَادِرَةٌ. الرَّجُلَ مُتَكَبِّرٌ وَلاَ يَهْدَأُ. الَّذِي قَدْ وَسَّعَ نَفْسَهُ كَـالْهاوية وَهو كَـالْمَوْتِ فَلاَ يَشْبَعُ بَلْ يَجْمَعُ إلى نَفْسِهِ كُلَّ الأُمَمِ وَيَضُمُّ إلى نَفْسِهِ جَمِيعَ الشُّعُوبِ. 6فَهَلاَّ يَنْطِقُ هَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ بِهَجْو عَلَيْهِ وَلُغْزِ شَمَاتَةٍ بِهِ وَيَقُولُونَ: وَيْلٌ لِلْمُكَثِّرِ مَا لَيْسَ لَهُ. إلى مَتَى؟ وَلِلْمُثَقِّلِ نَفْسَهُ رُهوناً؟ 7أَلاَ يَقُومُ بَغْتَةً مُقَارضوكَ وَيَسْتَيْقِظُ مُزَعْزِعُوكَ فَتَكُونُ غَنِيمَةً لَهُمْ؟ 8لأَنَّكَ سَلَبْتَ أُمَماً كَثِيرَةً فَبَقِيَّةُ الشُّعُوبِ كُلِّهَا تَسْلِبُكَ لِدِمَاءِ النَّاسِ وَظُلْمِ الأرض وَالْمَدِينَةِ وَجَمِيعِ السَّاكِنِينَ فِيهَا. 9"وَيْلٌ لِلْمُكْسِبِ بَيْتَهُ كَسْباً شِرِّيراً لِيَجْعَلَ عُشَّهُ فِي الْعُلُو لِيَنْجُو مِنْ كَفِّ الشَّرِّ. 10تَأمرتَ الْخِزْيَ لِبَيْتِكَ. إِبَادَةَ شُعُوبٍ كَثِيرَةٍ وَأَنْتَ مُخْطِئ لِنَفْسِكَ. 11لأَنَّ الْحَجَرَ يَصْرُخُ مِنَ الْحَائطِ فَيُجِيبُهُ الْجَائزُ مِنَ الْخَشَبِ. 12"وَيْلٌ لِلْبَانِي مَدِينَةً بِالدِّمَاءِ وَلِلْمُؤَسِّسِ قَرْيَةً بِالْإِثْمِ. 13أَلَيْسَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْجُنُودِ أن الشُّعُوبَ يَتْعَبُونَ لِلنَّارِ وَالأُمَمَ لِلْبَاطِلِ يُعْيُونَ؟ 14لأَنَّ الأرض تَمْتَلِئ. مِنْ مَعْرِفَةِ مَجْدِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ. 15"وَيْلٌ لِمَنْ يَسْقِي صَاحِبَهُ سَافِحاً حُمُوَّكَ وَمُسْكِراً أيضاً لِلنَّظَرِ إلى عَوْرَاتِهِمْ. 16قَدْ شَبِعْتَ خِزْيا عِوَضاً عَنِ الْمَجْدِ. فَاشْرَبْ أَنْتَ أيضاً وَاكْشِفْ غُرْلَتَكَ! تَدُورُ إِلَيْكَ كَأْسُ يَمِينِ الرَّبِّ وَقُيَاءُ الْخِزْيِ عَلَى مَجْدِكَ. 17لأَنَّ ظُلْمَ لُبْنَانَ يُغَطِّيكَ وَاغْتِصَابَ الْبَهَائم الَّذِي رَوَّعَهَا لأجل دِمَاءِ النَّاسِ وَظُلْمِ الأرض وَالْمَدِينَةِ وَجَمِيعِ السَّاكِنِينَ فِيهَا. 18"ماذا نَفَعَ التِّمْثَالُ الْمَنْحُوتُ حَتَّى نَحَتَهُ صَانِعُهُ أو الْمَسْبُوكُ وَمُعَلِّمُ الْكَذِبِ حَتَّى أن الصَّانِعَ صَنْعَةً يَتَّكِلُ عَلَيْهَا فَيَصْنَعُ أوثَاناً بُكْماً؟ 19وَيْلٌ لِلْقَائل لِلْعُودِ: اسْتَيْقِظْ! وَلِلْحَجَرِ الأَصَمِّ: انْتَبِهْ! أَهو يُعَلِّمُ؟ هَا هو مَطْلِيٌّ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلاَ رُوحَ الْبَتَّةَ فِي دَاخِلِهِ!20أَمَّا الرَّبُّ فَفِي هَيْكَلِ قُدْسِهِ. فَاسْكُتِي قُدَّامَهُ يا كُلَّ الأرض"
نبوة حبقوق – الفصل 2: 1-15، 18-20
هل تجد صعوبة في فهم مشكلة الحياة الاساسية: مشكلة الشر؟ لا تيأس ولا تظن انك الإنسان الوحيد الذي جابه هذه المعضلة الحياتية. فمنذ فجر التاريخ نرى الإنسان وهو يحاول حل هذه المشكلة. ولقد استنبط عدة نظريات لحل هذه المعضلة ولكنها لم تكن بالحقيقة حلولا لأنها انما نبعت من عقل الإنسان المحدود والخاطيء.
وكم علينا أن نشكر الله لأنه قاد انبياءه ومرسليه للكلام عن هذا الموضوع. وكنا قد أتينا على ذكره في درس سابق عندما ابتدأنا بدراسة رسالة النبي حبقوق. وقد عاش هذا النبي في أيام ما قبل الميلاد في فلسطين ابان عز امبراطورية الكلدانيين. وكان قد اشتهر اباطرتها ببطشهم بالناس وبقساوتهم. ويمكننا النظر إلى هؤلاء القدماء وما قاموا به كمظهر من مظاهر الشر. وإذ حاول النبي أن يفهم المشكلة التي واجهها فانه لم ينظر اليها من وجهة نظر مجردة بحتة. على العكس واجه النبي مشكلة الشر عندما جابه مشكلة الاشرار الذين كانوا يعيثون بالأرض فسادا. يا ترى كيف يسوى بين ذلك وبين سلطة الله وقدرته اللا محدودة؟
لم يتكل حبقوق النبي على عقله الإنساني بل ذهب بمشكلته إلى الله. فكان فحوى جواب الله انه تعالى يستعمل الاشرار لتأديب الناس! وإذ كان النبي مؤمناً كل الإيمان بربه والهه فانه قبل هذا التفسير الإلهي. لكنه لم يمتنع عن متابعة بحثه في الموضوع فأخذ يسأل: ولكن لماذا، لماذا يستعمل الله هكذا أناس – وهم لا يؤمنون به ولا يعترفون بسلطته – لماذا يستعملهم الله لتأديب الناس؟ أن هؤلاء الكلدانيين كانوا قد ألهوا قوتهم العسكرية، وهم أن كانوا يؤدبون الغير – بمقتضى القصد الإلهي – الا انهم لم يدروا بذلك ولا اعطوا الله مجده.
احتار النبي كما تحتار انت عندما تجابه هذا الموضوع الجوهرى. لماذا؟ لماذا؟ وحتى متى يبطش الاشرار بالناس وينكلون بهم؟! لكنه من المهم لنا أن نتذكر أن حبقوق لم يخرج عن اطار الإيمان القويم عندما تابع اسئلته. وهكذا عليك انت ألا تخرج عن نطاق الإيمان وأنت تحاول فهم هذا الموضوع الدقيق. اياك وان تتبع أولئك الذين رفضوا الله في أيامنا هذه واستعاضوا عنه بآلهة من اختراع الإنسان.
ماذا عمل حبقوق؟ ما هي الطريقة التي اتبعها للوصول إلى حل حقيقي لمشكلة الشر؟ لندعه يصف لنا موقفه بكلماته الموحى بها من الله. قال النبي"1عَلَى مَرْصَدِي أَقِفُ وَعَلَى الْحِصْنِ أَنْتَصِبُ وَأُرَاقِبُ لأَرَى ماذا يَقُولُ لِي وَماذا أُجِيبُ عَنْ شَكْوَايَ"هل لاحظت الأفعال التي استعملها حبقوق؟"أقف...، أنتصب...، أراقب...، لأرى...، يقول لى...، اجيب...،. كل هذه الافعال تدل على أن موقف النبي كان موقف الانتظار والترقب والرجاء المنبعث من إيمانه الحي بالله. انتظر النبي كلمة الرب! هذا درس هام جدا لكل إنسان في هذه الأيام. اني انتظر كلمة من الله. انا اريد جوابا إلهي المصدر. ومتى تكلم الله تعالى فجوابه يكفي. انا لست اريد أكثر من ذلك ولن أرضى بأقل من ذلك.
لنصغي إلى نبي الله وهو يخبرنا عن جواب الله"2فَأَجَابني الرَّبُّ: "اكْتُبِ الرُّؤْيا وَانْقُشْهَا عَلَى الأَلْوَاحِ لِيَرْكُضَ قَارِئها 3لأَنَّ الرُّؤْيا بَعْدُ إلى الْمِيعَادِ وَفِي النِّهَايَةِ تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَكْذِبُ. أن تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَاناً وَلاَ تَتَأَخَّرُ" كان الأمر الرباني بأن يكتب حبقوق الرؤيا التي رآها، أن يكتبها بأحرف كبيرة لكي يقرأها الجميع. ما تكلم به الله كان سيتم حتماً ولوظهر لنا ذلك – حسب توقيتنا البشرى – متأخرا أكثر من العادة.
كيف نلخص ما تكلم به الله بخصوص موضوعنا هذا؟ نقول أن ما قاله الله لعبده ونبيه حبقوق يمكن تلخيصه بكلمات ثلاثة: نهاية الشر أكيدة. نهاية الأشرار أكيدة. اني أقبل هذه الكلمات لأن الله تكلم بها. ها أني انقش هذه الكلمات على عقلي وعلى قلبي: نهاية الشر والأشرار أكيدة.
ولكني بشرى، أنا إنسان ضعيف، انا مخلوق محدود وصبرى قليل. لذلك أجد نفسي أسأل عدة أسئلة لأني لازلت محتارا. مثلا، كيف، كيف اعيش والاشرار يفتكون ويدمرون؟! ماذا علي القيام به؟ هل علي أن اكون كمتفرج على الحياة وكأنها رواية تمثيلية أوفيلم سينمائي؟ ام هل علي اعتناق الفلسفة التي تقول بأن الحياة هي دوما تحت رحمة قضاء أعمى؟ أم هل علي الانقياد وراء الذين يقولون بأن التاريخ البشرى هو مسير من قبل دوافع حتمية آلية؟ أم هل علي قبول الشر في الحاضر وكأنه ضرورى لا مفر منه نظر لأن التاريخ المؤله قد صرح بذلك؟ ما هو نوع الجو الفكرى الذي علي أن أعيش فيه؟ جواب الله على جميع هذه الأسئلة وما يشابهها هو "4 هو ذَا مُنْتَفِخَةٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ نَفْسُهُ فِيهِ. وَالْبَارُّ بِإيمانهِ يَحْيَا"هذا هو جواب الله. لا تعتنق هذه الفلسفة ولا تلك الايديولوجية بل اذكر أن البار بإيمانه يحيا. الحياة الوحيدة التي ترضي الله هي الحياة التي هي بالإيمان. البار يحيا بإيمانه بالله. وهذه الكلمات تعني: أولاً: الثقة التامة والمطلقة بالله – مهما حدث ومهما صار، ثانيا: اليقين التام بأن كلمة الله ستتحقق – مهما طال الانتظار – وثالثاً: الحياة بواسطة الرجاء الحي بأن الغلبة هي لقوى الخير والصلاح!
وهذا يعني انه من العبث النظر إلى الإيمان وكأنه جواز سفر للذهاب إلى النعيم. طبعا، بدون إيمان بالله وبمسيحه الفادي لا امل ولا رجاء للوصول إلى ديار النعيم. ولكن الإيمان الحي لا يحفظ في ناحية تافهة من الحياة للاستعمال لدى اقتراب ساعة المنون! الإيمان الذي يتكلم عنه الوحي الإلهي هو إيمان حي وللحياة اليومية. البار بإيمانه يحيا. هذا يعني كل يوم بل وكل ساعة ودقيقة. يحيا البار بإيمانه – لا بإيمانه بإيمانه، بل بإيمانه بالله: سيد التاريخ ورب العالمين.
بعد أن اعطى الله نبيه حبقوق هذا المبدأ الحياتي الهام عن ضرورة التسلح بالإيمان الحي لمجابهة الحياة وصعوباتها ومشاكلها، اعطى عبده كلمات خاصة تتعلق بجميع الاشرار وهي عبارة عن ويلات ستنصب عليهم بكل تأكيد قال النبي"وَيْلٌ لِلْمُكْسِبِ بَيْتَهُ كَسْباً شِرِّيراً لِيَجْعَلَ عُشَّهُ فِي الْعُلُو لِيَنْجُو مِنْ كَفِّ الشَّرِّ. 10تَأمرتَ الْخِزْيَ لِبَيْتِكَ. إِبَادَةَ شُعُوبٍ كَثِيرَةٍ وَأَنْتَ مُخْطِ). لِنَفْسِكَ. 11لأَنَّ الْحَجَرَ يَصْرُخُ مِنَ الْحَائطِ فَيُجِيبُهُ الْجَائزُ مِنَ الْخَشَبِ. 12"وَيْلٌ لِلْبَانِي مَدِينَةً بِالدِّمَاءِ وَلِلْمُؤَسِّسِ قَرْيَةً بِالْإِثْمِ. 13أَلَيْسَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْجُنُودِ أن الشُّعُوبَ يَتْعَبُونَ لِلنَّارِ وَالأُمَمَ لِلْبَاطِلِ يُعْيُونَ؟ 14لأَنَّ الأرض تَمْتَلِئ. مِنْ مَعْرِفَةِ مَجْدِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ. 15"وَيْلٌ لِمَنْ يَسْقِي صَاحِبَهُ سَافِحاً حُمُوَّكَ وَمُسْكِراً أيضاً لِلنَّظَرِ إلى عَوْرَاتِهِمْ"
وقرب نهاية الفصل الثاني من نبوته ترك لنا النبي هذه الكلمات الخالدة التي تصف لنا بطلان كل نوع من الوثنية والصنمية"ماذا نَفَعَ التِّمْثَالُ الْمَنْحُوتُ حَتَّى نَحَتَهُ صَانِعُهُ أو الْمَسْبُوكُ وَمُعَلِّمُ الْكَذِبِ حَتَّى أن الصَّانِعَ صَنْعَةً يَتَّكِلُ عَلَيْهَا فَيَصْنَعُ أوثَاناً بُكْماً؟ 19وَيْلٌ لِلْقَائل لِلْعُودِ: اسْتَيْقِظْ! وَلِلْحَجَرِ الأَصَمِّ: انْتَبِهْ! أَهو يُعَلِّمُ؟ هَا هو مَطْلِيٌّ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلاَ رُوحَ الْبَتَّةَ فِي دَاخِلِهِ!20أَمَّا الرَّبُّ فَفِي هَيْكَلِ قُدْسِهِ. فَاسْكُتِي قُدَّامَهُ يا كُلَّ الأرض"
وان كنا نظن بأننا في هذه الأيام بعيدون كل البعد عن عبادة الأوثان والاصنام فذلك صحيح – أن كنا نفكر بالأوثان والاصنام التي كانت تعبد في العصور الماضية. نشكر الله اننا تخلصنا منها. ولكن هذا لا يعني أن الوثنية قد اختفت أو ان الصنمية قد ولت! هناك اصنام معنوية يسجد لها الناس ويتوكلون عليها. انها فلسفات دهرية عقلية مادية، انها ايديولوجيات كما تسمى في اللغات الاجنبية، وهي لا تؤمن بالله ولا بسلطانه على الناس. وهكذا فإن الذي حذرنا من مغبة السقوط في الوثنية من أي طراز يطلب منا أن نحيا حياة الإيمان الحي به ولكل ما قام به من أجلنا.
لقد مرت أكثر من الفين وخمسمائة سنة منذ أن تفوه حبقوق بنبوته ولكن الحقيقة التي نادى بها لم تصبح قديمه أو بالية. انها لا تزال حديثة مثل نور الفجر الذي يبزغ صباح كل يوم بمن الله به علينا. وفوق ذلك فاننا نتمتع بنور كبير نظرا لكل ما قام به السيد المسيح من أعمال خلاصية وفدائية جبارة. لقد قام المسيح بدحر قوى الشر والهلاك عندما مات عنا خارج أسوار مدينة القدس وعندما قام من القبر في صباح يوم الاحد المجيد. وها انه يقدم لنا مجانا سلام الله وغلبة الله، سلام الله الذي يفوق كل عقل وتصور وغلبة الله على الشر. آمن الآن، نعم آمن في هذا اليوم وعش بالإيمان، فالبار بإيمانه يحيا! آمين.
الخلاص من الله
"1صَلاَةٌ لِحَبَقُّوقَ النَّبِيِّ عَلَى الشَّجَوِيَّةِ: 2يا رَبُّ قَدْ سَمِعْتُ خَبَرَكَ فَجَزِعْتُ. يا رَبُّ عَمَلَكَ فِي وَسَطِ السِّنِينَ أَحْيِهِ. فِي وَسَطِ السِّنِينَ عَرِّفْ. فِي الْغَضَبِ اذكُرِ الرَّحْمَةَ. 3اَللَّهُ جَاءَ مِنْ تِيمَانَ وَالْقُدُّوسُ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ. سِلاَهْ. جَلاَلُهُ غَطَّى السماواتِ وَالأرض امْتَلَأَتْ مِنْ تَسْبِيحِهِ. 4وَكَانَ لَمَعَانٌ كَـالنُّورِ. لَهُ مِنْ يَدِهِ شُعَاعٌ وَهُنَاكَ اسْتِتَارُ قُدْرَتِهِ. 5قُدَّامَهُ ذَهَبَ الْوَبَأُ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْحُمَّى. 6وَقَفَ وَقَاسَ الأرض. نَظَرَ فَرَجَفَ الأُمَمُ وَدُكَّتِ الْجِبَالُ الدَّهْرِيَّةُ وَخَسَفَتْ آكَامُ الْقِدَمِ. مَسَالِكُ الأَزَلِ لَهُ. 7رَأَيْتُ خِيَامَ كُوشَانَ تَحْتَ بَلِيَّةٍ. رَجَفَتْ شُقَقُ أرض مِدْيَانَ. 8هَلْ عَلَى الأَنْهَارِ حَمِيَ يا رَبُّ هَلْ عَلَى الأَنْهَارِ غَضَبُكَ أو عَلَى الْبَحْرِ سَخَطُكَ حَتَّى أَنَّكَ رَكِبْتَ خَيْلَكَ مَرْكَبَاتِكَ مَرْكَبَاتِ الْخَلاَصِ؟ 9عُرِّيَتْ قَوْسُكَ تَعْرِيَةً. سُبَاعِيَّاتُ سِهَامٍ كَلِمَتُكَ. سِلاَهْ. شَقَّقْتَ الأرض أَنْهَاراً. 10أَبْصَرَتْكَ فَفَزِعَتِ الْجِبَالُ. سَيْلُ الْمِيَاهِ طَمَا. أَعْطَتِ اللُّجَّةُ صَوْتَهَا. رَفَعَتْ يَدَيْهَا إلى الْعَلاَءِ. 11اَلشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَقَفَا فِي بُرُوجِهِمَا لِنُورِ سِهَامِكَ الطَّائرةِ لِلَمَعَانِ بَرْقِ مَجْدِكَ. 12بِغَضَبٍ خَطَرْتَ فِي الأرض بِسَخَطٍ دُسْتَ الأُمَمَ. 13خَرَجْتَ لِخَلاَصِ شَعْبِكَ لِخَلاَصِ مَسِيحِكَ. سَحَقْتَ رَأْسَ بَيْتِ الشِّرِّيرِ مُعَرِّيا الأَسَاسَ حَتَّى الْعُنُقِ. سِلاَهْ. 14ثَقَبْتَ بِسِهَامِهِ رَأْسَ قَبَائلهِ. عَصَفُوا لِتَشْتِيتِي. ابْتِهَاجُهُمْ كَمَا لأَكْلِ الْمِسْكِينِ فِي الْخُفْيَةِ. 15سَلَكْتَ الْبَحْرَ بِخَيْلِكَ كُوَمَ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ. 16سَمِعْتُ فَارْتَعَدَتْ أَحْشَائي. مِنَ الصَّوْتِ رَجَفَتْ شَفَتَايَ. دَخَلَ النَّخْرُ فِي عِظَامِي وَارْتَعَدْتُ فِي مَكَانِي لأَسْتَرِيحَ فِي يَوْمِ الضَِّيقِ عِنْدَ صُعُودِ الشَّعْبِ الَّذِي يَزْحَمُنَا. 17فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَاماً. يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَاودِ 18فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلَهِ خَلاَصِي. 19اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَـالأَيَائل وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي. لِرَئيسِ الْمُغَنِّينَ عَلَى آلاَتِي ذَوَاتِ الأوتَارِ"
نبوة حبقوق – الفصل 3: 1-6و16-19
يا لها من حياة، حياة القسم الأخير من القرن العشرين. نحن ابناء البشرية الذين أعطينا أن نعيش في أيام الاكتشافات العظيمة والانتصارات الباهرة في عالم الفضاء، نحن الذين شاهدنا الإنسان يسير على القمر ويعود منه وكأنه كان مسافرا على بساط الريح... نحن ابناء هذه الأيام لا نعرف كيف نعيش! نحن لا نعرف كيف نعيش: عالمنا مليء بالمشاكل العديدة التي تقض مضجع الإنسان وتمنعه عن العيش بسلام ووئام.
ما أكثر خيرات الأرض وما أحلاها ولكنها لا تستعمل في سبيل الخير بل كثيراً ما تبدر في ميدان الشر! تقدم الإنسان في مضمار العلوم وطبقها في سائر نواحي حياته وصار أكثر إلماما بشؤون الأرض والزراعة – ولكن لا يزال ثلث العالم يعيش في حالة العوز والجوع. خيرات الأرض كثيرة ولكن لا يستفيد منها سكان الأرض بأجمعهم!
لابد لنا اذن من التساؤل لماذا؟ لماذا هذه التناقضات في حياة إنسان القرن العشرين؟ لماذا لم يأت النعيم إلى أرضنا هذه؟ لماذا تحطمت آمال الناس وأحلامهم، تلك الأمال والأحلام التي رأها العديدون من بني البشر منذ خمسة وسبعين سنة ومنذ خمسين سنة؟ أين هو الفردوس الذي وعدنا به اصحاب الفلسفات والنظريات الحياتية المدعوة بالعلمية؟
يقول البعض وهم لا يزالون يتشبثون بأهداب الفلسفات البشرية الواهية والمهترئة، يقولون: لايزال الإنسان بحاجة إلى وقت ليصل إلى غايته النشودة. أعطه وقتا كافيا ليقوم بترجمة أحلامه إلى الواقع، أعطه القليل أو المزيد من الوقت فيأتي بالفردوس المفقود إلى أرضنا هذه، أرض العذاب والآلام!
ولكن الكثيرين اليوم لا يرغبون في الانتظار، بل انهم لا يستطيعون الانتظار، الوقت قصير! ربما لن يكون هناك غدا بعيد الأمد لنطبق فيه آراء ونظريات الفلاسفة وتلامذتهم. لقد مللنا الانتظار وسئمنا من الاستماع إلى الكليشهات الفارغة. نريد حلا لمشكلة الحياة اليوم، اليوم، لا غدا ولا بعد غد!
لو كنا نحن بني البشر وحيدين في هذا الكون لكان من الأجدر بنا الاستسلام لموجة اليأس والقنوط التي هبطت علينا فنريح انفسنا العناء أي عناء البحث عن حل لمشاكلنا المستعصية. لكن الحقيقة العظمى هي اننا لسنا بوحيدين في هذه الدنيا. أن الله تعالى اسمه، خالق السماء والأرض والكون بأسره، أن خالقنا لا يزال على عرشه وهو المسيطر على كل شيء. وحتى في أحلك الساعات التي تمر فيها البشرية، على كل إنسان، من واجب كل بشرى أن ينظر إلى الله تعالى وينتظر منه العون والنجاة. الخلاص هو من الله.
وهذا مانتعلمه من حياة ورسالة نبي الله حبقوق الذي عاش في فلسطين في أيام ما قبل الميلاد. كان الله قد دعاه وأعطاه الوحي المتعلق بمجيء الكلدانيين لمعاقبة اهل البلاد المقدسة الذين كانوا قد نسوا الله وخانوا عهده وعبدوا الآلهة الوثنية وعاشوا مثل عابدي الأصنام.
وقد صعب على حبقوق النبي موضوع التأمل في جميع الأمور المحزنة التي طلب الله منه أن ينادى بها. ولكنه كمن كان قد اؤتمن على رسالة سماوية خاصة، لم يكن بوسعه الا وان يشهد بها أمام الملأ. فرفع النبي صلاة مبنية على الوحي الذي كان قد استلمه من الله، فابتدأ دعاءه قائلا"2يا رَبُّ قَدْ سَمِعْتُ خَبَرَكَ فَجَزِعْتُ. يا رَبُّ عَمَلَكَ فِي وَسَطِ السِّنِينَ أَحْيِهِ. فِي وَسَطِ السِّنِينَ عَرِّفْ. فِي الْغَضَبِ اذكُرِ الرَّحْمَةَ"
لماذا قال النبي في صلاته"2يا رَبُّ قَدْ سَمِعْتُ خَبَرَكَ فَجَزِعْتُ"؟ تفوه حبقوق بهذه الكلمات لأنه رأي بعين النبوة دينونة الله التي كانت ستنقض على الناس الذين كانوا قد حادوا عن طريقة المستقيم ولا سيما ابطال الامبراطورية الكلدانية الذين كانوا قد نكلوا بالشعوب الضعيفة ولاسيما بسكان الأرض المقدسة. ارتعد النبي وخاف وجزع لأن دينونة الله كانت مخيفة. وقد وصفها بهذه الكلمات"3اَللَّهُ جَاءَ مِنْ تِيمَانَ وَالْقُدُّوسُ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ. سِلاَهْ. جَلاَلُهُ غَطَّى السماواتِ وَالأرض امْتَلَأَتْ مِنْ تَسْبِيحِهِ. 4وَكَانَ لَمَعَانٌ كَـالنُّورِ. لَهُ مِنْ يَدِهِ شُعَاعٌ وَهُنَاكَ اسْتِتَارُ قُدْرَتِهِ. 5قُدَّامَهُ ذَهَبَ الْوَبَأُ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْحُمَّى. 6وَقَفَ وَقَاسَ الأرض. نَظَرَ فَرَجَفَ الأُمَمُ وَدُكَّتِ الْجِبَالُ الدَّهْرِيَّةُ وَخَسَفَتْ آكَامُ الْقِدَمِ. مَسَالِكُ الأَزَلِ لَهُ"
كان حبقوق النبي إنسانا مثلك ومثلي ومثل سائر البشر وهولم يكن ليسر بأخبار دينونة الله. من يرحب بكل هذه المصائب التي كانت ستنقض على الناس في تلك البلاد؟ طبعا كانت هذه الأمور المحزنة ستتم لأن الكلدانيين كانوا قد نسوا الله بصورة تامة وأهملوا شرائعه وأحكامه ونواميسه وصاروا ييثون بالأرض فسادا. والله لا يسمح بأمور كهذه بأن تستمر لأن عدله وصلاحه وقداسته – كل هذه تتطلب قصاص ومعاقبة العابثين بشريعة الله وبحقوق بني البشر الضعفاء.
وحتى عندما يعاقب الله الأشرار والظالمين فإن ذلك قد يسبب متاعب عديدة للذين لم يستحقوا ذلك العقاب فعالمنا هذا عالم تتشابك فيه حقوق الناس ومصالحهم – بما فيهم الصالحين والطالحين. ولذلك فإن النبي الذي كان قد رأي قرب مجيء دينونة الله رفع دعاءه إلى الله قائلا ومتوسلا كنائب عن المؤمنين والمؤمناًت"فِي الْغَضَبِ اذكُرِ الرَّحْمَةَ"، يا لها من طلبة هامة"فِي الْغَضَبِ اذكُرِ الرَّحْمَةَ"حتى وان لم نكن نستحق الا القصاص والعقاب، ارحمنا يا الله وخلصنا!،،
عاد حبقوق النبي إلى التأمل في دينونة الله القادمة على الأرض فما كان منه الا وان قال"16سَمِعْتُ فَارْتَعَدَتْ أَحْشَائي. مِنَ الصَّوْتِ رَجَفَتْ شَفَتَايَ. دَخَلَ النَّخْرُ فِي عِظَامِي وَارْتَعَدْتُ فِي مَكَانِي لأَسْتَرِيحَ فِي يَوْمِ الضَِّيقِ عِنْدَ صُعُودِ الشَّعْبِ الَّذِي يَزْحَمُنَا"
دينونة الله مخيفة ولكن هل عاد اهل اليوم يعلمون بها؟ عندما تنظر إلى عالمنا اليوم وترى المصائب والنوائب التي تحل بالناس هل تظن انها تجري بناء على عوامل حتمية أو الية؟ هل تؤمن بأن الله هو مسير التاريخ؟ ما أكثر الذين وقعوا فريسة للفلسفات والايديولوجيات الدهرية والمعاصرة والذين يسخرون من أي ذكر لموضوع علاقة الله بعالمنا وبتاريخ البشرية! فلقد تعودوا النظر إلى كل شيء من وجهة نظر لا دينية بحتة ويدعونها بالنظرة العلمية. ولئلا تصبح حياتهم عبارة عن صحراء روحية قاحلة يتسلحون بتفاؤلية يوتوبية ليس لها أي أساس صحيح أو سليم ويبشرون بمجيء عصر ذهبي من صنع الإنسان.
لكن المؤمن بالله يعترف بكل تواضع بأن الله هو المسيطر على دفة التاريخ وانه تعالى هو الذي يعاقب الأشرار والطالحين. وهذا المؤمن بالله الذي نتكلم عنه ليس بإنسان ابتدع عقيدته بل هو إنسان اختبر في صميم حياته عمل الله الخلاصي والفدائي عندما بزغ في قلبه نور الإيمان بالمسيح الفادي والمخلص. ليس المؤمن بكائن من كوكب آخر ولا هو من جبلة فوق بشرية. المؤمن هو إنسان حقيقي واقعي اختبر الخلاص والتحرير والانعتاق من الخوف واللا معنى والشر وصار متكلا على الله فقط في هذه الحياة والحياة الآتية. وهو يعلم علم الأكيد انه لا مفر من دينونة الله على عالم شرير كعالمنا وانه لا نجاة ولا خلاص الا في التوبة إلى الله والإيمان بمسيحه الذي جاء إلى دنيانا هذه لانقاذ الإنسان.
وإذ يتسلح المؤمن بالصبر وإذ ينظر بعين الواقعية إلى عالم القسم الأخير من القرن العشرين ويرى بعين الإيمان اقتراب دينونة الله واكفهرار الجو العالمي بأسره ينضم إلى النبي حبقوق وإلى سائر الذين عاشوا بإيمان حي بالله القدوس القدير شاهدا امام الملأ وقائلا"17فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَاماً. ينْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَاودِ 18فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلَهِ خَلاَصِي. 19اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَـالأَيَائل وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي"
- عدد الزيارات: 6235