هل نُسِخَ الدَّين؟
إلى الصديق الكريم
جاءني هذا السؤال: كيف تنادون بالإنجيل بينما الإسلام نسخ كل الديانات التي سبقته? وأيضاً: "كل نبي في أيام موسى وبعده, كان على شريعة موسى وتابعاً لكتابه - وكل نبي في زمن المسيح وبعده كان على شريعة المسيح وتابعاً لكتابه, إلى زمن محمد. أما شريعة محمد فلن تنسخ إلى يوم القيامة".
أنا أشكر الذين أرسلوا هذه الأسئلة ويسعدني أن يقوم جسر من التفاهم بيننا. وأحب أولاً أن أوضح المقصود بكلمة "نسخ" ثم أرد على السؤال: النسخ في اللغة هو إبطال الشيء وإقامة شيء آخر مقامه.
(1) وردي الأول على هذا الكلام هو أن هذا ادعاء, فنسخ دين المسيح لا يستند على دليل. هو مجرد خاطر عند صاحبه, لا يسنده لا قول قرآني, ولا حديث إسلامي. ولو كان عند أحد القراء برهان لأولاده وهو يكتب إلي. فإن الإسلام يقول عكس ذلك. إن هناك براهين كثيرة في صف استمرار المسيحية وتعاليمها, ففي صورة المائدة الآية 86 يقول: "يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل". فالقرآن يحث أهل الكتاب على إقامة شرائعهم واتباع عقائدهم التي جاءت في التوراة والإنجيل. لو كانت شرائعهم قد نسخت (أي أبطلت) وحل القرآن محلها لقال: "يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا القرآن. وفي صورة المائدة الآية 74 يقول: "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون". ولو كان الله يريد أن ينسخ التوراة والإنجيل بالقرآن, لما قال القرآن لمحمد في صورة المائدة الآية 34: "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة , فيها حكم الله". وفي صورة يونس الآية 49 يقول: "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك".
(2) وهناك رد ثان يبرهن استمرار المسيحية وكتبها المقدسة, وهو أن القرآن أورد قصص الأنبياء باختصار وإيجاز, بينما أوردتها التوراة والإنجيل بتفصيل يجعلهما مرجعاً وافياً للتوضيح. والقرآن نفسه في سورة النحل 34 يقول: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم. فاسألوا أهل الذكر إن كنتم تعلمون". وفي سورة الشهداء الآيات 391 - 691: "نزل الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين, وإنه لفي زبر الأولين"(أي في كتب الأولين) هذا يعني أن التوراة والإنجيل يحتويان على ما جاء في القرآن من أحكام وشرائع وتعاليم أخلاقية, بحيث لا يمكن أن ينسخا لأنهما شريعة الله.
(3) ولعل فكرة النسخ اختلطت في ذهن أصحاب السؤال - فالقرآن لم يذكر أبداً نسخ التوراة والإنجيل. لقد رجعت إلى "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن" فوجدت أن ذكر "النسخ" مرتين في القرآن. أولهما في سورة البقرة 601: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" والثانية في سورة الحج 52: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته, فينسخ الله ما يلقي الشيطان, ثم يحكم الله آياته". ورجعت لكتاب "أسباب النـزول" لجلال الدين السيوطي, فوجدته يذكر سبب نزول "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" قال: اخرج ابنا أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: "كان ربما ينـزل الوحي على النبي بالليل, بالنهار, فأنزل الله" ما ننسخ من آية أو ننسها تأت بخير منها أو مثلها. وواضح يا صديقي القاريء أن القول "ننسخ آية" لا يقصد به الإنجيل أو التوراة. أما سبب نزول "فينسخ الله ما يلقي الشيطان" فيقول جلال الدين السيوطي في كتابه "أسباب النـزول" قرأ النبي بمكة والنجم.... فلما بلغ ""أفرأيتم اللات والعزى , ومناة الثالثة الأخرى" ألقي الشيطان على لسانه: تلك العرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى". فقال المشركون: "ما ذكر الهتنا بخير قبل اليوم" فسجد محمد وسجدوا فنـزلت هذه الآية "وما أرسلنا من قبلك رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته, فينسخ الله ما يلقي الشيطان, ثم يحكم الله آياته, والله عليم حكيم".
وواضح يا عزيزي القارىء أن الله حسب هذه الآية نسخ ما ألقاه الشيطان في أمنية النبي المسلم ولا إشارة هنا بالمرة للتوراة ولا للإنجيل.
(4) وأود أن أضيف رداً رابعاً على القائلين بأن الإسلام نسخ المسيحية... وهو أن ملايين البشر اليوم في كل أنحاء العالم يعملون بموجب أحكام التوراة والإنجيل, فحكمها ما زال قائماً. ولا يستطيع أحد أن ينكر فضل الكتاب المقدس على المدنيات الحديثة. ولا عجب في ذلك, فإن الذي يقرأ التوراة والإنجيل يجد بينهما تناسقاً واتفاقاً, بلا تغير ولا تبديل. لقد كتب أسفار الكتاب المقدس بأيدي أناس مسوقين من الروح القدس. كتبوه في فترة بلغت 1900 سنة , اشترك في كتابته أكثر من أربعين كاتباً من كل مسالك الحياة, فيهم الملك والفيلسوف والفلاح والصياد والشاعر والعامي, وناقشوا فيه قضايا مثيرة للاختلاف مثل الله, والإنسان, والخطية, والفداء, والخلاص, ولكن في تناسق مذهل, بدون تناقض. لو أننا درسنا بعض ما كتبه مجموعة من أدباء عرب معاصرين عن موضوع واحد لوجدنا خلافات جذرية بينهم - كلهم عرب - كلهم في عصر واحد. أما الكتاب المقدس فهو متجانس بدون تناقض رغم الفترة الزمنية التي كتب فيها, ورغم اختلاف مشارب الذين كتبوه. والسبب في ذلك هو أن الله أوحى به, الله الذي أعطاه. وهذا هو السر في أنه الكتاب المقدس حتى سنة 1993 , وقد ترجم إلى 1763 لغة ولهجة. هل بعد ذلك نقول أن الكتاب قد نسخ , أو أن الإسلام قد نسخ دين المسيح? إن الله ما زال يحافظ على كلمته.
(5) لقد حافظ الله على الكتاب المقدس وسط الاضطهاد. حاول كثيرون أن يحرقوه أو أن يمنعوا نشره منذ أيام أباطرة الرومان وحتى أباطرة الحكم الشيوعي, ولكنهم لم يفلحوا. هزأ به كثيرون وهاجمه كثيرون, وصار الهازئون المهاجمون في خبر كان, وانتهوا هم وبقي كتاب الله. وقال الملحد المشهور فولتير (الذي توفى 1778): "بعد مائة سنة ستكون المسيحية قد أمحت وصارت تاريخاً", وصار فولتير في ذمة التاريخ, ولم تمض خمسون سنة على وفاته حتى استعملت جمعية نشر الكتاب المقدس مطبعة ومنـزل فولتير لنشر الكتاب المقدس. وقبله سنة 303 م أصدر الامبراطور الروماني دقلديانوس أمراً بإحراق الكنائس والكتب المقدسة وحرمان كل مسيحي من الحقوق المدنية, ولكن الذي خلف دقلديانوس على العرش وهو قسطنطين آمن بالمسيح, وأوصى بوسابيوس بنسخ خمسين نسخة من الكتاب المقدس على نفقة الحكومة الرومانية.
صديقي القاريء, المسيحية من الله وكتابها يحوي الحق الذي أعطاه الله. وجوهر المسيحية هو المحبة, فالله المحبة أحبنا, وبرهن على حبه لنا في المسيح. فلذلك فنحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً. وكل من يحب الله يبرهن على هذا الحب بحبه للآخرين. المسيحية ديانة المحبة, المحبة لا تسقط أبداً. هل يمكن أن تنسخ المحبة, هل يمكن أن يحل شيء محل المحبة؟ افتح قلبك لله.. للخير.. للحق.. اطلب من الله أن يرشدك للحق.
مع تحيات قاسم إبراهيم
- عدد الزيارات: 3898