سر التألم -7
لازمت الآلام البشرية منذ فجر التاريخ إذ أنه ليس بأمر حديث أو عصرى أن يتألم البشر. هذا صحيح! لكننا لازلنا نبحث في هذا الموضوع الهام لكي نكون المفهوم الحقيقي لموضوع التألم وسر الالم. ومع كثرة الأمور الحسنة والجيدة في حياتنا المعاصرة الا انها اتسمت أيضاً بكثرة الآلام والفواجع والمآسي التي انهمرت على الناس لا كأفراد فقط بل كجماعات وشعوب. ولذلك نحن لا نكون باحثين في موضوع فلسفي أو نظرى مجرد عندما نتكلم عن سر التألم بل نكون متكلمين عن موضع حياتي يمس جميعنا في معترك الحياة التي نحن نحياها في الثلث الأخير من القرن العشرين.
وقد ذكرنا عدة أمور تتعلق بهذا الموضوع، فقلنا أننا عندما نشرع بالتفكير فيه فأننا نقوم بذلك من وجهة نظر الإيمان القويم أي الإيمان بالله الواحد الحقيقي المسيطر على كل شيىء والقادر على كل شيء والذي يبقى صالحا وعادلا مهما كثرت متاعب الحياة ومهما اكفهرت أجواؤها بالغيوم الكثيفة! وذكرنا أيضاً بعض النظريات الخاطئة المتعلقة بموضوع الآلام والتألم تلك النظريات التي نمت وترعرت على تربة الديانات والفلسفات الوثنية ونبذنا تلك الآراء لان أساسها هو خاطىء. ثم ذكرنا أيضاً أن الإنسان يلعب دورا فعالا في جلب الآلام على رأسة وعلى غيره بتعديه على النواميس والشرائع التي سنها الله لهذه الحياة يجلب التشويش والاضطراب والفوضى وغيرها من الأمور المحزنة التي تساهم في جلب الآلام على الناس. ولكننا لاحظنا انه من المهم جدا ألا نخال بأن آلام هذه الحياة تعادل بصورة حسابية أو رياضية مقدار الشر الذي يرتكبه الإنسان. فمع وجود علاقة عامة بين وجود الشر في العالم ووجود الآلام الا أنه لا يجوز لنا مطلقا القول بأن الإنسان يتألم في هذه الحياة بالنسبة إلى الشرور التي يكون قد ارتكبها أو أنه يتألم دوما بصورة حتمية.
وفوق ذلك رأينا بأن الإنسان قد يتألم بدون أن يكون قد قام بأمر مخالف للشريعة الإلهية. واستشهدنا بحياة أو بسيرة أيوب الصديق الذي عاش في أيام ما قبل الميلاد والذي تعذب وتألم كثير في حياته بدون أن يكون قد ارتكب خطايا معينة. وقد ساعدنا الوحي الإلهي على رؤية عامل معين له علاقة وثيقة بآلام وعذابات الناس وهو الشيطان وتدخله في حياة البشرية. وهكذا وصلنا إلى القول بأنه هناك سر في آلام وعذابات الناس ولاسيما في حياة المؤمنين وان الله يجعل جميع هذه الأمور تعمل في النهاية لصالح عبيده الاتقياء كما كانت الحالة مع أيوب الصديق.
نأتي الآن إلى مجابهة السؤال الحيوى التالي : هل يمكننا النظر إلى التألم والآلام وكأنها دائما معبرة عن المشيئة الإلهية؟ وبعبارة أخرى، عندما أكون أنا كإنسان مارا في بحر الآلام، ما هو موقفي منها وماذا على أن أستنتج؟ أهذه هي مشيئة الله بالنسبة الي فما على أنا المتألم سوى الإذعان والرضوخ؟ أم هل علي أن أحاول فهم المشيئة الإلهية بطريقة أرى فيها أنه من واجبي التغلب على هذه الآلام ولاسيما على بواعثها ومسبباتها؟
هذه أسئلة ذات أهمية قصوى لانها تتعلق بنفس كل إنسان مار في بحر الآلام والعذابات. ونحن طبعا نعتبرها مطروحة من قبل مؤمن أو مؤمنة، وعندما نحاول الاجابة عليها وعلى ما يشابهها سوف نعيد إلى ذاكرتنا كل ما كنا قد ذكرناه عن هذا الموضوع.
قبل كل شيء نقول انه يجدر بنا أن نكون مفهوما صحيحا للمشيئة الإلهية أو الارادة الإلهية لئلا نقع في مأزق حرج ونحن نبحث في هذا الموضوع الدقيق. المشيئة الإلهية هي دوما مشيئة الاله الواحد السرمدي القدوس العادل الصالح والمحب. إذن نقول : مشيئة الله هي دوما مشيئة صالحة ولا يجوز نسبة أي شيء ردىء اليها ولقد علمنا السيد المسيح في الصلاة المعروفة باسم الصلاة الربانية بأن نرفع دعائنا إلى الله قائلين : لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. وهذا يعني أنه من واجبنا بأن نسعى لتكييف حياتنا لكي تكون بصورة دائمة متجانسة مع المشيئة الإلهية. وهذه المشيئة هي صالحة وعادلة لانها ليست الا ارادة الله الصالح والعادل والقادر على كل شيء.
وكما كنا قد ذكرنا سابقا نحن نعيش في دنيا ساقطة وهي أشبه بساحة حرب تدور رحاها بين قوى الخير والشر. وإذ نعيش في دنيا كهذه فأن هناك أمور عديدة ملوثة بالشر والعصيان على المشيئة الإلهية، وهذه تجلب علينا البؤس والشقاء والآلام والعذابات.
ولكن عالمنا ليس بعالم قد خرج بصورة مطلقة عن سلطان الله أو عن تسيير الله لشؤونه. يبقى عالمنا هذا خاضعا لله ولكنه (أي عالمنا). عالم مليء بالمشاكل الناتجة عن ثورة الإنسان الأول وعن سيره في ركاب الشيطان.
وإذ تأتي علينا النوائب نعلم بأنها لم تأت بدون معرفة الله. لنضع هذه الحقيقة العظمى أمام أعيننا فنصبح أكثر قربا إلى حل مشكلة الالم والعذاب. نحن لا نقول بأننا قد وصلنا إلى حل مفهوم تماماً أو إلى حل يطمئن اليه كليا قلب الإنسان المتألم لكننا نكون سائرين على الطريق المؤدى إلى ذلك الحل!
فلابد إذن من وجود درس معين يود الله منا أن نتعلمه من آلامنا وعذاباتنا، وذلك الدرس لم يكن قد تعلمناها فيما لو لم يضعنا الله في مدرسة الآلام. يتعلم المتألم دروسا عملية واقعية حياتية لا دروسا نظرية فلسفية مجردة. يعلم المتألم (المؤمن). أن يد الله تبقى مسيطرة على كل شيء، فعليه إذن التقرب من الله والصلاة اليه لكي يصل المصلي إلى معرفة هذا الأمر : هل عليه الصلاة من أجل رفع هذه الآلام (كالتخلص من مرض معين والمسبب للآلام). أو من أجل احتماًل المرض وآلامه – فيما إذا كانت المشيئة الإلهية بأن يتألم المؤمن إلى النهاية.
لا يصل المؤمن إلى هذه المعرفة في يوم واحد أو بصورة فوطبيعية بل بواسطة العناية الإلهية التي تلهم المؤمن بأن يقوم بعمل أمر ما أو اتخإذ موقف معين فيصل في النهاية إلى معرفة غاية آلامه وتألمه. وأثناء مرور المؤمن ببحر الآلام عليه أن يذكر نفسه مرارا وتكرارا بأنه مخلوق له قوى عقلية محدودة، وانه من المستحيل له أن يتفهم تماماً كيف يسوس الله جميع أمور العالم وخاصة العالم الذي نعيش فيه نحن. لا يصبح المؤمن – نظرا لإيمانه بالله – متمتعا بمعرفة خارقة للطبيعة، لكنه يمتاز عن غير المؤمنين بكونه يعرف الله القادر على كل شيء معرفة اختبارية / حياتية. فالمؤمن يعلم كل العلم بأن الله هو الآب السماوي الرحوم والرؤوف وأنه تعالى يجعل كل الاشياء تعمل معا للخير من أجل الذين يحبون الله أي المدعوون حسب أو بمقتضى قصده الازلي. وفي هذه المعرفة الاكيدة يجد المتألم عزاء كبيرا وسلاما يفوق كل عقل وتصور.
- عدد الزيارات: 2155