Skip to main content

تأملات في الحياة

حياد العلم

أجرى أحد الصحفيين مقابلة تلفزيونية مع عالم يعلّم الفيزياء في جامعة أوروبيّة شهيرة. وتطرّق الصحفيّ إلى عرض عدّة مواضيع هامّة تتعلّق بالأرض والكون ومنشؤهما إلى ما هناك من أمور تهمّ البشريّة في أواخر القرن العشرين وفي القرن الحادي والعشرين. وقرب نهاية الحديث مع هذا العالم الشهير سأله الصحفي قائلاً بما يمكن ترجمته كما يلي: يا أستاذ، هل تؤمن بالله، أي بالله الخالق والمدبّر لأمور الكون؟ كان الجواب: كلا، لست أؤمن بالله!

لا أخفي عليكم أيها القراء الكرام أنني حزنت جدّاً لدى سماعي لهذه الكلمات وخاصة لأن الأستاذ هو ضليع في شؤون علم الفلك والفيزياء ويتمتّع بمكانة مرموقة بين أقرانه العلماء. تأسّفت لكلماته وفي نفس الوقت قلت لنفسي ليس هذا بالعالم المعاصر الوحيد الذي يعلن عن عدم إيمانه بالله، إنه واحد من الكثيرين من أهل اليوم والذين وصلوا إلى قناعة داخلية بأنه ليس هناك إله خالق ومعتني بمخلوقاته يصغي إلى أدعيتهم ويستجيب إلى صلواتهم.

وإذ أكتب في هذا الموضوع أودّ بأن أؤكّد بأنني لا أضمر أية عداوة لبعض العلماء المتضلّعين في العلوم الطبيعية بل أرغب في لفت أنظار القراء إلى أن موقف بعض العلماء من أمور الله ليس بموقف علميّ. مثلاً عندما يعلن أحد العلماء المعاصرين بأنه لا يؤمن بالله فهذا موضوع يخصّه كفرد صمّم بأن يدين بمبدأ إلحادي. لكنني لا أقبل مطلقاً ادعاءه بأن موقفه الإلحاديّ هو مدعوم بالعلم. عندما يقف عالم ما أمام شاشة التلفزيون أو يدلي برأيه بواسطة المذياع أو في مجلة أسبوعية ويقول بأنه لا يؤمن بالله يكون قد عبّر عن موقف فلسفيّ لا عن مبدأ علمي.

وقبل الاسترسال في الكلام عن هذا الموضوع يتوجب عليّ، كمن أعبّر عن أفكاري بلغتنا العربية، القول إن كلمة علم أو عالم أضحت تعني غير ما كانت تعنيه لأكثر من ألف سنة في تاريخ حضارتنا. فبينما كانت كلمة علم أو عالم تشير إلى حقل الدين إلا أننا بعد تأثرنا بالحضارة الغربية منذ أوائل القرن التاسع عشر، صرنا نستعمل كلمتي علم وعالم في كثير من الأحيان حسب المفهوم الأجنبي لهاتين الكلمتين. وهذا المفهوم يحصر معنى العلم بما يمكن تسميته بالعلوم الطبيعيّة فصارت كلمة عالم تشير إلى المتخصّص في مضمار هذه العلوم.

أعود إلى الكلام عن قول العالم الفيزيائي بأنه لا يؤمن بالله. هذا أمر خاص به كفرد وهو مسؤول عن قراره ولا بدّ له من أن يواجه نتيجة قراره في يوم الحساب. أترك هذا الموضوع الهام في يد الله القدير والعادل. ما أود أن أشدد عليه في حديثي هذا هو أن الذي يود أن يدعم قراره بعدم الإيمان بالله، من يودّ أن يدعم قراره هذا على أنه قرار علميّ يكون قد قام بقفزة لا منطقيّة ولذلك فإنّها غير مقبولة. فموضوع العلوم الطبيعية هو هذا الكون وما فيه من أمور مادّية حسّيّة ملموسة أو منظورة. والنظريات العلمية تتغير من جيل إلى آخر. مثلاً، كان العلماء في القديم يعتقدون بأن الأرض مسطّحة وأن الشمس كانت تدور حول الأرض. لكن تلك النظريات العلمية القديمة ليست مقبولةً الآن. فنظراً لتقدّم العلوم الفلكيّة والاكتشافات الجغرافيّة في القرون الخمسة الماضية صرنا نعلم بأن الأرض هي كروية الشكل وأنها هي التي تدور حول الشمس.

وكذلك يمكننا الإشارة إلى الذرّة التي كان ينظر إليها كأصغر جزء في المادة ولكننا نعلم الآن بأن الذرة نفسها تتكوّن من جزيئيات صغيرة للغاية تدعى بالالكترونات والبروتونات والنيوترونات. فالنظريات العلمية الطبيعية تتغيّر بسرعة ولاسيما في أيامنا هذه.

وغايتي في سرد بعض الأمثلة المستقاة من العلوم الطبيعية هو أننا لا زلنا نتكيّف في مفهومنا لها حسب الاكتشافات التي تجري ولذلك لا تستطيع القول بأننا وصلنا إلى كبد الحقيقة بخصوص أي موضوع علمي طبيعي. الأسلوب العلمي الطبيعي هو مفيد وجيّد ولكنه لا يطبّق على أمور ما فوق الطبيعة أو ما وراء الطبيعة أي على ما يعرف بالغيبيّات.

ولا بدّ من الإشارة بأنّ المفهوم العلمي المعاصر لا يوجد بمعزل عن المعارف البشرية الأخرى. فالإنسان منذ فجر التاريخ لا يكتفي بالسعي وراء فهم وتفهّم ما يحيط به في عالمه وفي كونه بل إنه يسأل نفسه أسئلة مصيريّة ويحاول تعليل الوجود ومعناه وهدفه ومكانة الإنسان فيه. وندعو هذا الجهد البشريّ لتفهّم ماهية الكون والوجود بالحكمة أو بالفلسفة وهذه كلمة يونانية الأصل وتعني حرفيّاً: محبّة الحكمة.

فإن كان العلم المعاصر جزءاً من المعارف البشريّة وإن كان جزءاً آخر منه هو ما نسمّيه بالفلسفة التي تبحث في ماهية الأمور بما فيها من أمور محسوسة أو غير محسوسة، نخلص إلى القول بأن عقل الإنسان بما في ذلك عقل العالم المعاصر، ليس محايداً إلى درجة أنه لم يتأثّر بالفلسفة المحيطة به. وما أعنيه بكلّ بساطة هو أن العديدين من العلماء المعاصرين قد تأثّروا بالفلسفات المعاصرة المنكرة لله ولكنهم أرجعوا موقفهم اللا إيمانيّ إلى العلم عوضاً عن الإقرار بأنهم أنكروا الله نظراً لموقفهم الفلسفي.

ومن الجدير بالذكر أن الأسلوب الفلسفي يبدأ دائماً من بديهيات غير قابلة للبرهان. البديهيات هي نظريات مسبقة يدين بها الإنسان نظراً لميله العقلي والوجداني. ومن العسير جداً لأي بشري أن يسبر غور عقل الإنسان الآخر. كل ما يستطيع القيام به هو أن يعي ما يذكره قرينه الإنسان بخصوص إيمانه ومعتقداته. وعندما نأخذ هذا بعين الاعتبار لا يعني أننا مثلاً نصبح مرغمين على قبول تعليل العالم المعاصر الذي يقول بأنه، نظراً لمبادئه العلمية، لا يستطيع الإيمان بالله الخالق والمعتني بمخلوقاته. نرفض هذا التعليل اللا منطقي. العالم الملحد هو ملحد لا بسبب علمه بل نظراً لاعتناقه نظرة حياتية شاملة منكرة لله. وبكلمة مختصرة يعود إلحاده إلى طبيعة فلسفته الإلحادية!

وخلاصة الأمر: ليس هماك من حياد في موضوع العلم المعاصر. ومن يدّعي بأن هكذا حياد موجود يكون قد خدع نفسه. الإنسان كائن واحد وشخصيته واحدة ومتى تخصّص في مضمار العلوم الطبيعية وصار من العلماء لا يكون قد أضحى من جبلة فوق بشرية. لا بد لهكذا إنسان من أن يكون قد كوّن لنفسه نظرة حياتية معيّنة، فلسفيّة كانت أم دينية. فإن كانت نظرته الفلسفية تنفي الله مبدئيّاً فإن ميله الإلحادي يظهر في شهادته بأنه لا يؤمن بالله. لكن إعلانه لمعتقده الإلحادي لا يجوز أن يطلى بطلاء العلم لأنه ليس من اختصاص العلم الكلام عن وجود أو عدم وجود الله. ولكن إن كان العالم مؤمناً بالله، وذلك لأنه كان قد اختبر في صميم حياته عمل الله المنعش والمنقذ، فإن شهادته الإيمانية تكون شهادة عالمٍ مؤمنٍ، ويقينه المطلق بوجود الله وباتكاليته عليه، لا يمكن إرجاعه إلى حقل العلوم الطبيعية. فالله أسمى وأعلى من أن يبرهن وجوده في مختبر العلوم الطبيعية!.

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع كلمة الحياة.
  • عدد الزيارات: 2491