Skip to main content

أخلاقيّات السينما

لقد بحثت سابقاً في موضوع علاقة الأخلاقيات ببعض نواحي حياتنا المعاصرة كأخلاقيات الاقتصاد وأخلاقيات التكنولوجيا وأخلاقيات الطبّ. أعالج في هذا الفصل موضوع أخلاقيات السينما.

من البديهي لكل باحث في موضوع السينما وعلاقتها بحياتنا المعاصرة أنّها فن جديد وفد دنيانا على موجة التقدّم العلمي الباهر الذي تمّ منذ أوائل القرن العشرين. فمع أنّ المسرحيّات قد ساعدتنا منذ القرن الماضي على توسيع ثقافتنا وأفق حياتنا الفكريّة والحضاريّة، إلا أنّ السينما أدخلت بعداً جديداً على حياة البشر بتجاوزها لمحدودية المسرحيات ولتمكينها الملايين من تذوّق اختبارات حياتيّة مثيرة حتى ولو كانوا يقطنون قرى نائية قلّما كان يزورها مسرح متحرّك!

وما أذكره في بحثي هذا عن أخلاقيات السينما ينطبق إلى حدّ كبير على أخلاقيات التلفزيون والفيديو الذي يمكننا النظر إليهما كامتداد لفن السينما.

نظراً لوجود الآلاف من الأفلام السينمائيّة وبلغات ولهجات عديدة فإنّه من المستحيل لنا أن نبحث في موضوعنا هذا إلاّ بطريقة إجماليّة عامّة. فما أذكره هو نتيجة لانطباعات عديدة حصلت عليها لا لأنني من المدمنين على مشاهدة الأفلام السينمائية أو التلفزيونية بل كحصيلة لما أطالعه من مقالات نقديّة أو تحليلية لهذا الفيلم أو ذاك. فنتج عن ذلك أنني كوّنت فكرة عامة لوجود أوجه شبه عديدة ومواقف أخلاقية معينة في مختلف المنتوجات السينمائية تتطلّب البحث والتحليل.

أول ما يلفت أنظارنا بخصوص فنّ السينما هو أنّ فيلماً معيناً يستعرض لنا شريحة من المجتمع البشري في مكان وزمان معينين حيث يصف لنا الواقع المعاش من خلال اختبارات أو معاناة بطل وبطلة الفيلم والأشخاص المحيطة بهما. وغاية مخرج الفيلم أن يساهم في تقوية شعورنا بما يدور في عالمنا من خلال المنتوج السينمائي أي انه لا يود منا بأن نبقى مجرّد مشاهدين للفيلم بل أن نشاركه في تحليله لمتناقضات ومشاكل عالمنا.

السينما هي فن كبقية الفنون والدرس الأولي الذي يلقّننا إياه أصحاب الفنّ هو أنّهم لا يودّون بأن يتحوّلوا إلى وعّاظ أو دعاة. العمل السينمائي والإنتاج السينمائي وكل ما له علاقة بالسينما يأتي تحت باب الفنّ لا أكثر ولا أقلّ! لم أقتبس هذه الكلمات من مقال ما ولا من كتاب بحث في فن السينما، بل هو تعبيري الصادق والأمين لانطباعات قوية حصلت عليها من جراء بحثي ومطالعاتي بخصوص هذا الموضوع. ما ذكرته إذن كان معبّراً عن محاولتي الخاصة لتلخيص هذه الانطباعات. السينما فن من الفنون الجميلة وهي لذلك لا تعظ ولا تعطي دروساً في الأخلاق. هذا هو لسان حال صانعي الأفلام السينمائية.

لكنني ما إن أشرع في تحليل بعض الأفلام التي تشاهد في دور السينما في مختلف أنحاء العالم حتى ألاحظ أنّ العديد منها لا تكتفي بأن تسرد قصّة معيّنة بل لها غاية خاصة وكأنّ المخرج أراد أن يلقننا درساً ما في موضوع حياتي هام. وكثيراً ما ترد بعض التعابير التي تظهر في مقالات صحفية عن فيلم ما بأن المخرج هو ملتزم بمعنى أنه يدين بنظرة حياتية خاصة وأن له هدفاً معيناً في إخراج فيلمه أكثر من ملء جيوبه بالنقود!

السينما فن، هذا صحيح، والفنانون والفنانات الباهرون هم الذين ينجحون في هذا المضمار ويصبحون من أبطال وبطلات الشاشة البيضاء. لكن السينما أكثر من فن. تلعب السينما المعاصرة دوراً قيادياً في حياة الناس ولو كان ذلك بصورة لا شعورية أو تحت شعورية. ومع أنها لا تلعب دور الواعظ بصورة مباشرة إلا أنها تتطرّق إلى العديد من مواضيع الحياة وتدلي برأيها في كيفية تنظيم الحياة بما في ذلك الحياة الأخلاقية.

فالذين يقولون بأن السينما هي فن لا أكثر ولا أقلّ ويريدون منا أن نقبل ذلك وبدون فحص أو تمحيص ينسون أو يتناسون بأن الحياة البشرية لا تعرف الحياد فيما يتعلّق بالأخلاق والأخلاقيات. ومهما اختلف الناس في معتقداتهم الدينية، فإنهم يتفقون على أن هناك أموراً محلّلة وأموراً محرّمة. الأخلاقيات تبحث في هذه المواضيع الأخلاقية الهامّة وتلقي ضوءاً على كيفية تنظيم مسيرة الحياة البشريّة.

ومما يؤلمنا في كثير من الأحيان أنّ بعض الأفلام السينمائية تلقّن المشاهدين ضرباً من الأخلاقيات هي في نهاية المطاف لا أخلاقيّة! وما أعنيه أنّ المقدّسات تداس تحت الأقدام وأبطال وبطلات الأفلام يسيرون على نمط حياتي طابعه العبثية والإباحيّة وكأنّه لم يعد في عالمنا خير أو شرّ، حلال أو حرام.

والكثيرون من معاصرينا، ولاسيما من أعضاء الجيل الناشئ، يكوّنون فكرة خاطئة عن الحياة عندما يشاهدون أفلاماً لا أخلاقيّة حيث يمجّد فيها العنف والجنس ومواقف حياتية لا إنسانيّة. هكذا أفلام لا يمكن أن يقال عنها بأنها مجرّد عرض أو استعراض للفن السينمائي، إنها تعظ وتنادي بنوع جديد من الطراز الحياتي أو من السلوك، وتظهر عدم اكتراثها لأية مبادئ سماوية وفدت دنيانا نظراً لاهتمام الله بنا ومن أجل خيرنا الزمني والأبدي.

لست أنوي بواسطة كلماتي هذه بأن أظهر بمظهر المتحجّر أو المتقوقع ضمن نمط حياتي يرجع إلى القرون الوسطى. ولا أريد بأن أفهم على أنني أعادي الفنون الجميلة أو الفنّ السينمائي كفنّ. كلا، لست من الذين ينادون بالرجوع إلى الوراء والعيش في عالم آخر غير عالم القرن العشرين. لكنني كإنسان مسؤول أمام ربي وإلهي، وكمن يؤمن من قرارة قلبه بأن هناك أخلاقيات سليمة مبنية في أسسها على تعاليم الوحي الإلهي، لا أستطيع أن أبقى صامتاً ولا أشهد ضدّ تحوّل العديد من الأفلام المعاصرة إلى دعوات للانحراف الخلقي والاستخفاف بكلّ الأمور الروحية والأخلاقية الثابتة التي لا تتغيّر من زمان إلى آخر ولا من إقليم إلى آخر.

وإذ نعيش وسط عالم غابت فيه الرؤيا السليمة وضعفت فيه المناعة الروحية والأخلاقية، يجدر بنا أن نشدّد على أهميّة علاقة السينما بالأخلاقيات. فالعمل السينمائي يجب أن يتمّ ضمن إطار يعترف بوجود الخير والشرّ، الحلال والحرام.

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع كلمة الحياة.
  • عدد الزيارات: 2944