Skip to main content

الأنبياء

دعوة أليشع وبداية خدمته

(1ملوك 19:19-21، 2ملوك 2)

خلف النبيُّ أليشعُ النبيَّ العظيم إيليا في رسالته للمملكة الشمالية، ومعنى اسمه »الله خلاص«. ولا نعرف الكثير عن عائلته إلا أن اسم أبيه شافاط، من سبط يساكر.

ويبدو أن الأب كان رجلاً تقياً ذا غِنى، فقد كان حقله يستلزم اثني عشر زوجاً من البقر لحَرْثه. والنبي أليشع من بلدة اسمها »آبل محولة« في الطرف الشمالي من وادي الأردن الى الجنوب قليلاً من بحر الجليل. و»آبل محولة« اسم عبري معناه »مَرْجُ الرقص« وهو نفس المكان الذي طَرَدَ منه نبي الله جدعون ورجاله الثلاثُ مائة، المستعمرين المديانيين.

ومن المرجح أن »آبل محولة« اليوم هي بلدة »عين حلوة« على بعد عشرين كيلو متراً جنوب بيسان.

إيليا يدعو أليشع للخدمة الدينية:

أول ما نلتقي بنبي الله أليشع على صفحات التوراة المقدسة، في الأصحاح التاسع عشر من سفر الملوك الأول، عندما كان النبي إيليا هارباً من وجه الملكة الشريرة إيزابل، وأصدر إليه الرب أمراً أن يرجع الى برية دمشق ليمسح حزائيل ملكاً على أرام (المعروفة الآن بسوريا) وأن يمسح أليشع بن شافاط من آبل محولة نبياً خلفاً له.

واستجاب النبيُّ إيليا لدعوة الله، فذهب من المكان الذي كان موجوداً فيه، واتَّجه نحو آبل محولة، حيث وجد أليشع بن شافاط يحرث، واثني عشر زوجاً من البقر أمامه، وهو مع الزوج الثاني عشر. فمرّ النبيُّ إيليا بأليشع وطرح رداءه عليه، وكان هذا الرداء خصوصياً مميّزاً، وكل من يرتديه يُعرَف به أنه نبي، كما كان الأنبياء يلبسون ثوباً من الشعر.

وأدرك النبي أليشع معنى طرْح رداء إيليا عليه، فقد كان علامة تعيينه ليكون نبياً يعمل مع إيليا، يخدمه ويكون تلميذاً له، على أن يتولَّى مسئولية خدمة النبوَّة لبني اسرائيل بعد ذلك. ولا يسجِّل الوحي المقدس لنا شيئاً قاله النبي إيليا لأليشع وهو يدعوه، لكن أليشع شعر في أعماق قلبه بدعوة الله له »واللبيب بالإشارة يفهم«. وظل أليشع في مكانه وقتاً يفكر في تلك الدعوة الكريمة التي وجَّهها الله اليه ليكون نبياً.

وكان إيليا أثناء ذلك الوقت قد ترك أليشع ومضى، فجرى أليشع وراء إيليا وقال له: »دَعْني أقبِّل أبي وأمي وأسير وراءك«. ولم يكن أليشع يقصد أن يتأخر عن طاعة الدعوة، لكنه استجاب لها حالاً. غير أنه أراد أن يودّع أهل بيته بعد أن قرر تَرْكهم في سبيل خدمة الله، فكان لابد أن يخبرهم أنه ترك الأرض، ليتولّوا هم مسئولية حرثها.

ثم أنه أراد أن يعرِّفهم بدعوة الله له. وكانت إجابة إيليا على أليشع: »اذهب راجعاً، لأني ماذا فعلت لك؟«. والنبي إيليا يقصد أن الله هو الذي دعا أليشع للخدمة، ولم يكن إيليا هو الذي دعاه. ثم أن الله لا يطلب من الذين يطيعونه أن يقتلوا عواطفهم الطبيعية من نحو أهلهم، فان الذي يحبّ الله لابد أن يحب أهله أولاً. ولا يمكن أن تبدأ خدمة ناجحة إلا اذا بدأت في البيت وسط الأهل الذين نعرفهم.

وهكذا رجع أليشع من وراء إيليا، وأخذ بقرتين وذبحهما، وسلَق اللحم بخشب المحراث الذي كان يحرث عليه، وقدم للشعب فأكلوا. وبعد ذلك مضى وراء إيليا، وكان يخدمه ويتعلم منه ويتدرب على يديه.

أليشع يقبل الدعوة:

في استجابة النبي أليشع لدعوة إيليا ليخدم الله، نرى محبة أليشع الكاملة لله. لقد سلق اللحم بخشب المحراث، وأطعم الشعب، لأنه أراد أن يقول لله: »كل ما أملكه هو لخدمة الشعب، لأدعوه للتوبة«.

هذا العطاء هو علامة تكريس كامل لله، الذي يجب أن يحتلَّ المكانة الأولى في قلوبنا، وما أجمل ما قاله السيد المسيح: »اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللّهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ« (متى 6:33).

أيها القارئ الكريم، إن الله يدعوك لتخدمه. قد تجيء الدعوة إليك بأن تترك عملك لكي تتفرَّغ للخدمة الدينية، وقد تجيئك لتخدم الله حيث أنت في عملك اليومي العادي ولو أن دعوة معظم الناس هي أن يخدموا الله في عملهم اليومي العادي.

وسواء دعاك الله لخدمة متفرغة، أو لجزء من الوقت، فان عليك أن تضع مصلحة الآخرين قبل مصلحتك وأن تضع الله أولاً قبل كل شيء في حياتك.

وخدمة الله تتطلب من جانبنا تواضعاً. كان أليشع من عائلة ثرية، وكان يعمل في حقله، ولكن ما أن قبل دعوة الله حتى بدأ يخدم النبي إيليا. إن السيد المسيح الذي غسل أرجل تلاميذه، يعلّمنا درساً عظيماً في خدمة الآخرين. وها هو أليشع يقدم لنا درساً رائعاً في سرعة طاعة دعوة الله، وفي الاستجابة التي لا تتردد لندائه، والتي تقول قولة رسول المسيحية بولس: ولكني لا أحسب لحياتي أيَّ قيمة، ما دمتُ أسعى الى بلوغ غايتي وإتمام الخدمة التي كلَّفني بها الرب يسوع: أن أشهد ببشارة نعمة الله (أعمال 20:24).

هل سمعتَ دعوة الله لك لتخدمه؟ إنَّ الله يدعونا جميعاً أن نعمل في كرمه، فلنضع الله أولاً في حياتنا، ونتقدم الى الأمام بغير تردُّد لنخدم الله، كما أسرع أليشع بطاعة الدعوة الإلهية، وسار وراء إيليا.

ولفترة طويلة ظل أليشع يخدم إيليا ويتدرَّب على يديه ويتعلم منه. لقد جاءت دعوة رجل الله إيليا لأليشع أثناء عمله في زراعة حقله، فالله لا يدعو الكسالى. وأطاع أليشع الدعوة بلا مراجعة.

بدأت خدمة أليشع بسيطة، فقد كان يصبُّ الماء على يدي إيليا، ولكن الله أقامه بعد ذلك على خدمة عظمى، كما سنرى. ونحن عندما نكون أمناء في الخدمة البسيطة التي يدعونا الله إليها، فانه يرقّينا ويرفعنا الى مستوى أعلى، إذ يقول لنا: »كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ« (متى 25:21).

أليشع يتبع إيليا:

حان موعد انطلاق إيليا الى السماء بغير موت، فقد أرسل الله مركبة من نار أخذت إيليا الى السماء العليا. وعندما شعر إيليا بدُنوِّ أجله كان ذلك في الجلجال، محل سكن النبي أليشع. فقال إيليا لأليشع: »ابقَ هنا، لأن الرب قد أرسلني الى بيت إيل«. فرفض أليشع أن يترك إيليا، وقرر أن يذهب معه الى بيت إيل. وما أن وصل إيليا وأليشع الى بيت إيل حتى جاء بنو الأنبياء وقالوا لأليشع: »ألا تعلم أنه اليوم يأخذ الرب سيدك منك؟«. فأجابهم: »أعلم، فاسكتوا«.

وقال النبي إيليا لأليشع: »ابقَ هنا لأن الرب قد أرسلني إلى أريحا«. فأصرَّ أليشع أن يذهب مع النبي إيليا الى أريحا. وفي أريحا تقدم بنو الأنبياء الى أليشع وقالوا له الرسالة نفسها، إن الله سيأخذ منه سيده إيليا، فطلب منهم أن يسكتوا. وعاد إيليا يقول لأليشع: إن الرب قد أرسلني الى الأردن، وطلب منه أن يبقى في أريحا. ولكن أليشع أصرّ على الذهاب الى الأردن مع إيليا. وعندما وقف إيليا على حافة نهر الأردن أخذ رداءه ولفَّه وضرب ماء نهر الأردن، فانفلق الى هنا وهناك، فعبر إيليا وأليشع على الأرض اليابسة.

اطلب ماذا أفعل لك:

وبعد أن عبرا قال إيليا لتلميذه أليشع: »اطلُبْ ماذا أفعل قبل أن أُوخَذَ منك«. فأجاب أليشع: »ليكن نصيب اثنين من روحك عليَّ«. وكانت شريعة تقسيم الميراث عند موسى أن ينال الابن الأكبر نصيب اثنين من الميراث. وكان الأنبياء أبناء أبيهم الروحي إيليا، فطلب أليشع أن يكون أولهم ورئيسهم، كالبكر بين الأولاد، يأخذ نصيب اثنين من روح أستاذه إيليا.

وما أجمل الطمع في البركات السماوية. جميل أن نفتح قلوبنا لنتلقَّى من الله بركات أكثر، وقد قال المسيح لتلاميذه: »إِلَى الْآنَ لَمْ تَطْلُبُوا شَيْئاً بِاسْمِي. اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا، لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً« (يوحنا 16:24). وكانت إجابة إيليا على طلبة أليشع: »صَعَّبْتَ السؤال«. لقد صعّب أليشع السؤال على نفسه، لأنه طلب أن يأخذ نصيب اثنين من روح إيليا، وهذا يجعله يتحمل مسئولية ضخمة. ووضع إيليا شرطاً لنوال البركة المزدوجة، فقال لأليشع: »إن رأيتني أُوخَذَ منك، يكون لك كذلك، وإلا فلا يكون، وظل أليشع يرافق إيليا إلى أن رآه يصعد إلى السماء في مركبة نارية، فجعل أليشع يصرخ: »يا أبي، يا أبي، مركبة إسرائيل وفرسانها«. فقد كان إيليا بحقٍ جيشاً كاملاً في عمل مشيئة الله.

لو أن أحداً وجَّه إليك سؤالاً مثل الذي وجَّهه إيليا لأليشع: »ماذا أفعل لك؟« فماذا تكون إجابتك؟ هل تحب أن تنال روح اثنين في خدمة الله؟ هل تحب أن يكون نصيبك في خدمة الله والآخرين نصيباً مضاعفاً؟

رحلة روحية:

تُظهر الرحلة التي سافرها أليشع مع النبي إيليا لنا ما يجب أن نفعله في سفرنا الروحي إلى حياة أرفع وأرفع مع الله. بدأت الرحلة من الجلجال. ومعنى الجلجال »دحرجة العار«. ورحلتنا الروحية تبدأ دوماً بالتوبة، عندما نرجع إلى الله بكل قلوبنا، فيتدحرج عار الخطية عنا. ثم نتقدم في رحلتنا من دحرجة العار إلى بيت إيل، ومعناها »بيت الله«. وهذا يعني الصُّحبة الإلهية، والأُنس بالله.

وعندما نتوب الى الله يقبل توبتنا ويعطينا صُحْبَته المباركة. وإذ تكون لنا الصُّحبة ننتقل الى أريحا، البلد التي سقطت أسوارها أمام بني إسرائيل فانتصروا. فالذي يسير في صحبة الله بعد توبته ينتصر ويغلب، لأن الله ينصره. وتنتهي الرحلة بعبور نهر الأردن الذي يرمز إلى الموت، ذلك الموت الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية وإلى مكان الراحة.

أيها القارئ الكريم، إن أردت أن تنتهي حياتك بأرض الراحة والمجد في محضر الله، فعليك أن تبدأ بالتوبة ودحرجة عار الخطية عن نفسك. ثم عليك أن تتمتع بالصحبة الإلهية، إذ تحيا في أُنسٍ مع الله وفي طاعة له. وعليك أن تختبر الانتصار اليومي في حياتك إذ ينصرك الله على خطاياك وعلى شهواتك.

وإن كنت مصرّاً على أن تأخذ البركة من الله، فعليك أن تتابع رحلة حياتك الروحية دون ارتداد ولا تخلُّف، ودون أن تعطلك المصاعب عن اتّباع الله. دحرج عنك عار الخطية بالتوبة، واستمتع بصحبة الله والأنس معه. اجعله يحارب معك وفيك لتغلب الخطية، حتى تعبر نهر الأردن الى حيث البركة والنعمة في محضر الله - حياة أبدية لا تنتهي أبداً.

  • عدد الزيارات: 2371