Skip to main content

داود يخطئ

حتى الآن رأينا رجلاً يصعد من لا شيء ليكون ملكاً عظيماً - من وراء الغنم إلى قصر الملك - إلى الانتصار، إلى المُلك في حبرون على سبط يهوذا، وأخيراً إلى المُلك في أورشليم على كل بني إسرائيل. ولقد أعطاه الله ملكاً عظيماً.

كانت حياة داود حتى دراستنا الحالية نصرة تتلوها نصرة وكانت كل صفحة من حياته أكثر لمعاناً من الصفحة التي قبلها. كان يتقدم من مجد إلى مجد. ولكن داود سقط: ومنذ سقوطه بدأ في الهبوط، وكان كل يوم يحمل إليه خبراً سيئاً يحزن القلب. صحيح أنه لم يهلك، ولكنه انحدر ونزل في نظر نفسه، وفي نظر عائلته، وفي نظر شعبه. ونحن نسأل: هل تستحق الخطية كل الثمن المدفوع فيها؟ كان داود مثل البلبل الذي ارتفع في جو الصداقة مع الله، يرنم في السماء بفرح وابتهاج، وفجأة سقط على الأرض مكسور الجناح يصرخ طالباً رحمة الله.

يجب أن نحترس:

لا يجب أن نلوم داود لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا. في كل واحد منا شيء يقرِّبه إلى الله، وشيء آخر يشدُّه إلى الشر. فلنقف في حذر لئلا ندخل في تجربة، فإن رسول المسيحية بولس يحذرنا قائلاً: »مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لَا يَسْقُطَ« (1كورنثوس 10:12). لذلك لنكن ساهرين صاحين، لأن الشيطان كأسد زائر يريد أن يبتلعنا. لا نظن أن فترة الشباب وحدها هي مرحلة الخطية، فإن داود جاز مرحلة الشباب في انتصار، ولكنه سقط في الخطية وهو كبير العمر. وليس على الخطية كبير، ففي اللحظة التي نبتعد فيها عن الله نهوي إلى الشر. ولكن لتكن لنا ثقة بالله، فلا نفشل إن سقطنا، لأننا بقوة الله محروسون بإيمان لخلاص مستعد أن يُعلن في الزمان الأخير (1بطرس 1:5). وإن سقطنا يجب أن نجري بسرعة إلى الرب ونطلب منه الغفران، عالمين وعد السيد المسيح المبارك: »وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الْأَبَدِ، وَلَا يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. أَنَا وَالْآبُ وَاحِدٌ« (يوحنا 10:28-30).

غلطة داود:

كان بنو إسرائيل يحاربون بينما كان داود مستريحاً في قصره في أورشليم. وفي كسله وراحته زاره فكرٌ شرير، ورحَّب داود به، وانتزع امرأةً زوجة رجل. وكان داود قد سبق أن شجع هذا الضيف الشرير أن يزوره، فقد سبق أن تزوج سيدتين وهو في البرية، ثم تزوج خمس سيدات وهو في حبرون، ثم تزوج بعدد آخر وهو في أورشليم، وأضاف إلى كل زوجاته ست عشرة سُريّة. وعندما جاء الضيف الشرير إلى داود مرة أخرى أخطأ داود وأخذ نعجة الرجل الفقير. ويظهر أن النجاح الذي عاش فيه جعله ينسى الحذر، فلم ينتبه وسقط.

ولكن شكراً لله أنه لم يترك داود في خطيته، إذ أرسل إليه ناثان النبي لينبِّهه. واستيقظ داود ليبكي على خطيته، وكتب المزمور الحادي والخمسين اعترافاً.

وينقسم هذا المزمور إلى ثلاثة أقسام: طلب داود الغفران، ثم طلب التطهير، ثم طلب أن يعيده الله إلى خدمته.

اعتراف داود:

اعترف داود بالخطية التي ارتكبها، واستعمل كلمات مختلفة في وصفها. قال أنه ارتكب »معصية«. والمعصية هي الثورة ضد الله.

وقال إنه عمل »إثماً« والإثم هو العَوَج. والذي يرتكب الإثم يحب الطريق الأعوج.

وقال إنه ارتكب »الخطيئة« والخطيئة هي عدم إصابة الهدف. لم يصب داود هدف وجوده في الحياة وأخطأ. وقال إنه عمل الشر، والشر هو عبور الخط الذي رسمه الله لنا، فقد وضع الله لنا حدوداً، والشرير هو الذي يعبر الخط إلى عالم الممنوع.

وفي طلب الغفران طلب داود أن »يمحو« الله معاصيه، كأن الخطيئة مكتوبة في كتاب، وداود يطلب من الله أن يمحوها.

وقال لله: »اغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي«. والغسل هنا هو بالخبط على حجر ليخرج الطين من الملابس القذرة، وكأن داود يطلب من الله أن يخبطه حتى يُخرج منه قذر الخطية. ثم يقول داود: »وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي«. ثم يقول: »طَهِّرْنِي بِالّزُوفَا فَأَطْهُرَ«. والتطهير بالزوفا هو استخدام الأعشاب التي كان بنو إسرائيل يغمسونها في الدم ليغطوا باب بيوتهم أثناء عيد الفصح، تذكاراً لوجود الدم على العتبة العليا وعلى قائمتي الباب، حتى لا يهلكهم الملاك المهلك. ومن يطهرنا إلا السيد المسيح؟

ثم يقول داود للرب: »اسْتُرْ وَجْهَكَ عَنْ خَطَايَايَ«. وهذه فكرة الكفارة - وضع غطاء على الخطيئة حتى لا يراها الله. ودم المسيح هو الغطاء الذي يغطي الخاطئ ويستره.

داود يطلب التطهير:

بعد أن طلب الغفران طلب التطهير. الغفران هو أن الله يسامحنا على ماضينا، والتطهير هو أن يعطينا الله القلب النقي الذي لا يحب الخطيئة. ونحن نحتاج بعد الولادة الجديدة إلى التطهير. تحتاج أيها التاجر إلى الاستقامة في تجارتك، كما تحتاجها أيها العامل وأنت تقوم بعملك. تحتاجها أيها التلميذ وأنت تجوز امتحاناتك، إذ يغسل الله قلوبنا من الشر حتى لا نحب الشر، وتتغير ميولنا من جهة الخطية.

تعال بنا نرى كيف طلب داود التطهير من الله، لنطلب نحن أيضاً منه أن يطهرنا.

طلب داود من الله قلباً نقياً: »قَلْباً نَقِيّاً اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللّهُ«. والقلب النقي هو القلب النظيف الذي غسله السيد المسيح ويعطيه الله للإنسان كما يقول الإنجيل المقدس: »إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الْأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً« (2كورنثوس 5:17). فلنطلب من الله أن يعطينا القلب النقي.

ثم طلب من الله أن يعطيه روحاً مستقيماً، قال: »وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي«. هذه الروح عكس الروح الذي نجده في الآثام، فإن الروح المستقيم عكس الروح الملتوي. عندما خلقنا الله كانت لنا استقامة، لكن الخطية عوّجتها، ونحن نطلب من الله أن يجدّد استقامتنا التي ضاعت منا.

ثم يقول داود للرب: »تُعَرِّفُنِي حِكْمَةً« والمقصود بالحكمة ليس المعرفة العقلية فقط، لكن حكمة التطبيق والتصرف. ورأس الحكمة مخافة الله. نحتاج إلى الحكمة في التصرف والتفكير، لنعرف كيف نواجه التجارب التي تهاجمنا. ويقول لنا الإنجيل إن كل من تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي بسخاء. فلنطلب من الله أن يعطينا الحكمة التي بها نتصرف ونحن نواجه الشهوة.

ومضى داود يصلي لله: »لَا تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ« نحتاج دوماً إلى الإحساس الدائم أن الله قريب منا حتى نعيش في القداسة والطهارة. قال رسول المسيحية بولس: »الربُّ قريب« (فيلبي 4:5). بمعنى أنه عن يميننا فلا نتزعزع. إن الابتعاد عن الله هو سبب كل البلايا، لكن الشعور أن الله معنا ينصرنا على خطيتنا. صحيح أن الخطية تبعدنا عن الله، لكن وجه الله الذي يسير معنا يبعدنا عن الخطيئة.

وقال داود لله: »وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لَا تَنْزِعْهُ مِنِّي«. الخطيئة في القلب تحزن روح الله، وداود يصلي أن لا ينزع الله روحه منه، بل أن يبقى عمل الروح القدس فيه، لأنه نادم على خطيئته ولأنه يريد أن تتطهر حياته.

ثم قال داود للرب: »رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلَاصِكَ«. الخطيئة تسلب الفرح، وتضيِّع بهجة الأُنس مع الله. لكن الذي يتوب إلى الله ترجع إليه بهجة الخلاص.

ثم قال داود للرب: »بِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ اعْضُدْنِي«. والروح المنتدبة هي الروح التي تعطي بسخاء. كان داود مثل اللص الذي أخذ ما لجاره الفقير، لكنه يصلي أن يعطيه الرب روحاً سخية تجعله يتعب عاملاً الصالح ليعطي من له احتياج.

داود يطلب فرصة للخدمة:

بعد أن طلب داود من الله الغفران والتطهير، عاد يطلب من الله أن يعطيه فرصة الخدمة.

قال لله: »أُعَلِّم الْأَثَمَةَ طُرُقَكَ« لقد سقط داود وتعب وعمل الإثم، ورأى نتيجته المُرّة، ولذلك فهو يريد أن يحذِّر الأثمة من طريقهم الشرير، ويهديهم إلى طريق الرب، لأن من ردّ خاطئاً عن ضلال طريقه، ينقذ نفس الخاطئ من الموت ويستر كثرة من الخطايا التي كان الخاطئ التائب سيرتكبها لو لم يتُب (يعقوب 5:20).

ثم يقول داود: »يُخْبِر فَمِي بِتَسْبِيحِكَ«. كان داود قد نظم مدرسة الأنبياء وأدخل فيها تعليم الترتيل والموسيقى، وهو يريد أن تستمر خدمة الترنيم والتسبيح.

ثم قال داود لله إنه يريد أن يبني أسوار مدينة الله. الخطيئة تهدم السور الذي يحمي النفس. وإن كان الشعب قد رأى داود يخطئ، فإن الخطيئة تهون أمامهم، لأن الناس على دين ملوكهم، ويريد داود أن يضيّع تأثير خطئه، فطلب من الله أن يعطيه فرصة الخدمة وبناء سور مدينة الله.

يا ليتنا نعترف إلى الله بعد أن نخطئ، لنجد من الله مغفرة لخطايانا. لا تترك الخطية دون أن تعترف بها، فالمرنم يقول: »قُلْتُ: أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي« (مزمور 32:5). 

  • عدد الزيارات: 2870