داود يملك في أورشليم
بعد أن سكن داود في أورشليم صادَقَ حيرام ملك مدينة صور. وأرسل حيرام هدية إلى داود من خشب الأرز الثمين، كما أرسل نجارين وبنائين بنوا له قصراً فخماً. ولما كانت صور على شاطئ البحر، فقد كانت تحتاج إلى القمح والزيت وغيره من غلّات الأرض، كما تحتاج أيضاً إلى طريق لتجارتها مع بلاد الشرق، فكان حيرام محتاجاً إلى داود. أما داود فقد كان محتاجاً إلى صداقة حيرام، لأن مملكته تحتاج إلى واردات البحر والمصنوعات، فقبل داود هدية الملك حيرام من خشب الأرز، وهو خشب لبنان الشهير، الأصفر اللون، فإذا مضت عليه الأيام صار أحمر اللون مُرّ الطعم فلا يأكله السوس، ولذلك يعمّر طويلاً، وهكذا بنى حيرام لداود قصراً يعمّر طويلاً.
داود ينقل خيمة الاجتماع:
بعد أن استراح داود في أورشليم بدأ يفكر في تنظيم العبادة والأمور الروحية. وكانت خيمة الاجتماع مكان اجتماع الرب بشعبه موجودة في بلدة اسمها نوب. ولكن لما مات أهلها نقلوا الخيمة إلى جبعون. وكان تابوت الله في قرية اسمها يعاريم. وبقي التابوت في يعاريم سبعين سنة. والتابوت هو صندوق صنعه موسى من خشب السنط المغطى بالذهب، طوله ذراعان ونصف، وعرضه ذراع ونصف، وارتفاعه ذراع ونصف. وعلى جانبي التابوت أربع حلقات من الذهب، توضع في كل حلقتين منها عصا، ليحمل اللاويون التابوت. وكان بالتابوت وعاءٌ فيه المن، وعصا هارون التي أفرخت، ولوحا العهد عليهما الوصايا العشر التي كتبها الله. وفوق التابوت كان يوجد الكاروبيم، وهو منظر ملاك بجناحين. وكان التابوت يمثل حضور الله وسط شعبه. وعندما أراد داود أن ينقل التابوت إلى عاصمة مُلكه أخذ معه ثلاثين ألف رجل من الجيش. وكان القصد من ذلك أن يحرس الشعب من هجوم الأعداء إذا فكروا أن يهاجموه، كما أن هذا يُظهر احترام داود العظيم لعبادة الله، ويُظهر أيضاً أن كل الشعب بكل أسباطه يشترك في العبادة وفي الرغبة أن تكون أورشليم مركز العبادة.
ودعا داود الشعب والكهنة ليحضروا عملية نقل التابوت. واجتمع الجميع لأنهم عرفوا أن إهمال الدين كان سبب هلاك شاول. ولم يتبع داود الطريقة التي أمر الله أن يحملوا التابوت بها. فقد وضع التابوت على عربة تجرها الثيران. وعندما انشمصت الثيران أسند رجل اسمه عُزّة التابوت بيده، فضربه الله فمات. فخاف داود كثيراً، وقال في نفسه: »إن كان عزة لمس التابوت فمات، فكيف يأتي التابوت إليّ؟ أنا أخاف منه«. وترك داود التابوت في المكان الذي مات فيه عُزة، وكان ذلك المكان قرية جت، عند بيت رجل اسمه عوبيد أدم. وبارك الله عوبيد وبيته، فانتقل من الفقر إلى الغنى. ولما سمع داود أن الله بارك عوبيد ذهب عنه خوفه وقرر أن يُصعد التابوت إلى مدينة أورشليم. وفي هذه المرة عرف داود طريقة حمل التابوت، فجاء الكهنة وحملوا التابوت على أكتافهم كما يجب أن يفعلوا. وذبح الكهنة سبعة عجول وسبعة ثيران. ثم بعد ما تقدموا ستّ خطوات قالوا إن الرب أعانهم، فذبحوا ثوراً وعجلاً. وخرج الملك داود يهتف ويغني ويرقص ويسبح الله. وأدخل داود التابوت في مكانه وسط الخيمة التي نصبها له. وذبح ذبائح كثيرة للشكر على نقل التابوت وأعطى الشعب هدايا، ووعظهم أن يثبتوا في عبادة الرب.
داود يبارك بيته:
بعد نهاية عبادة الله في الخيمة، رجع داود إلى بيته ليبارك أفراد أسرته. لم ينس أن عليه واجباً نحو أهل بيته، فأراد أن يشترك الجميع معه في الفرح المقدس.
ومن هذا نتعلم ضرورة الاهتمام بالعبادة في بيوتنا. فإن كنا نتعبّد وسط الناس، يجب علينا أن نتعلم كيف نتعبّد في بيوتنا، كما قال يشوع: »أَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ« (يشوع 24:15). ماذا تفعل لأهل بيتك؟ هل تشجعهم على العبادة؟ هل تصلي معهم في البيت؟ هل أنت قدوة طيبة لهم؟ لا تفشل إن كان احد أفراد العائلة بعيداً عن الله، فإن حياتك الصالحة وقدوتك الطيبة ستكون رائحة ذكية لذلك الشخص البعيد، فيرجع إلى الله. ثق أن المحبة التي تبيّنها للشخص البعيد ستربحه للطريق الصحيح إلى الإيمان.
داود يريد بناء بيت للرب:
وضع داود التابوت في خيمةٍ مصنوعة من جلود الغنم. وعندما ذهب إلى قصره العظيم المبني من خشب الأرز الغالي الثمن، الذي أرسله إليه حيرام ملك صور، قال داود في نفسه: »ليس جيداً أن أسكن في قصر، وتابوت الله يسكن داخل خيمة من جلود الغنم«. فدعا الملك داود ناثان النبي وقال له: »أريد أن أبني بيتاً للرب«. وأُعجب ناثان النبي كثيراً بفكرة داود، فقال له: »افعل ما بقلبك لأن الرب معك«. لكن يبدو أن ناثان النبي قال هذه الكلمة بناءً على رغبة قلبه هو، وكردّ فعل طبيعي تجاه رغبة داود، بغير أن يستشير الله. وعندما ذهب ناثان إلى بيته أعلن الله له في الليل أنه لا يوافق على فكرة أن يبني داود هيكلاً للرب، وقال الله لنبيه ناثان إنه لم يسكن في بيت من قبل، وإنه لو كان يريد بيتاً لطلب من أحد قضاة بني إسرائيل أن يبني له البيت المطلوب، ثم قال: إن ابن داود هو الذي يبني البيت له، أما داود نفسه فلا يبني البيت، لأنه سفك دماً كثيراً، وقام بحروب عظيمة. غير أن الله أرسل لداود رسالة تشجيع. قال إن الله سيبني له بيتاً، وهذا معناه أن عائلته ستدوم في النجاح ويثبت كرسي مملكته إلى الأبد. وقال الله إنه سيجعل ابن داود ابناً له، فإذا تعوَّج يؤدبه ويسلط عليه البشر حتى يضايقوه، لكنه لا يرفضه ولا يطرده، ولن ينزع رحمته عن نسل داود كما سبق أن نزعها من الملك شاول.
فرفع داود صلاة شكر إلى الله في مزمور ترنيم جميل، تحدث فيه عن محبة الله ومواعيده ورأى أنه لا يستحق هذا الفضل كله. قال: »أنت عرفت عبدك« - نعم عرف خطايا عبده، وضعفه، كما عرف محبته وغيرته، وتجاربه وضيقه. لقد عمل الله كل صلاح مع داود حسب قلب الرب وليس بحسب صلاح داود، ولا بسبب خير أتاه داود، بل بحسب مسرة قلب الله ورضى مشيئته. وختم داود صلاة شكره لله بأن طلب البركة على نفسه وعلى بيته.
هل شعرت بفضل الله عليك.ماذا تريد أن تردّ للرب من أجل كل ما عمل معك؟ إن حاولت أن تقدم لله خدمة سيعطيك جزاءها، لأن الله لا ينسى تعب المحبة. ولقد قال السيد المسيح إن من يسقي أحداً كأس ماء بارد من أجل المسيح فلا يضيع أجره (متى 10:42).
داود ينظم المملكة:
كان داود ملكاً عظيماً، عرف أن المملكة يجب أن تُنظم حتى تسير في نجاح، فإن إلهنا إله نظام وليس إله تشويش. فنظم داود العبادة في الهيكل، ونظم الجيش ونظم حكام البلاد، واعتنى بمدرسة الأنبياء التي بدأها صموئيل النبي، والتي كانت تدِّرب خدام الله.
وفي تنظيم خدمة الهيكل وجد أن هناك ثمانية وثلاثين ألف رجل من سبط لاوي، جعل منهم أربعة وعشرين ألفاً لخدمة عمل بيت الرب، وستة آلاف للقضاء، وأربعة ألاف يحرسون الهيكل، وأربعة آلاف للترتيل والتسبيح. ونظم داود الترنيم على آلات موسيقية وكتب الكثير من المزامير، وقوّى مدرسة الأنبياء لتعليم اللاويين الترتيل والشريعة.
ثم نظم الجيش، وكان أقوى جزء منه الستمئة رجل الذين رافقوه في الصحراء عندما كان هارباً من شاول. ومن هؤلاء الرجال الستمئة أبطال سجلت لنا التوراة عظيم أعمالهم.
ونظم داود حكم البلاد، فجعل لكل بلد حاكماً، ومنحه حرية الحكم في بلده. وكان الحكام يجتمعون اجتماعات دورية معاً للتشاور مع الملك داود ولمعاونته. لم يكن الملك داود يملك كما يريد، بل كان دوماً تحت سلطة النبي الذي كان يعلن له إرادة الله، وكان يخضع لهذه الإرادة. صحيح أن داود كان رجل الله، وكان نبي الله، وكان صاحب المزامير، ولكنه لم يكن ينفرد بالسلطة وحده، فقد كان دوماً يتشاور مع الحكام الذين يحكمون بلاد بني إسرائيل ومع رجال الدين.
لا يمكن أن ينجح عمل بدون ترتيب، وهذا يعلمنا ضرورة الترتيب في بيوتنا وكنائسنا وعملنا.
وعندما نتأمل حياة داود ونرى كيف أنه أحب الله بكل قلبه حتى أراد أن يبني للرب بيتاً، يمكن أن نلمس محبته لله التي وجدت خير الجزاء من الله.
- عدد الزيارات: 2753