Skip to main content

خليل اللّه وجيرانه

ذات يوم كان إبراهيم جالساً عند باب خيمته، وإذا ضيفان عظيمان يحضران لزيارته، أولهما أبيمالك - ملك جرار، المملكة التي كان إبراهيم يسكن فيها. وأما الضيف الثاني فهو فيكول رئيس جيش الملك - أو كما نقول اليوم وزير الحربية. وغالباً كان فيكول رئيس الوزراء ووزير الحربية أيضاً. ومعنى إسم أبيمالك "الملك الأب" - ومعنى فيكول "فم الجميع" ومعناه أنه هو الذي يكلّم الملك عن كل مشكلة تجري في المملكة. وبدأ الضيف العظيم أبيمالك الكلام مع إبراهيم، وكان الكلام غريباً. قال له: "اللّهُ مَعَكَ فِي كُلِّ مَا أَنْتَ صَانِعٌ" (تكوين 21:22). ليس هذا الكلام تحية، كما لم يكن صلاة أن يبارك اللّه إبراهيم، لكنه كان وَصْفاً لحالة إبراهيم، فلقد كان اللّه معه في كل ما يصنع. لكن الغريب أن هذا الملك الوثني يرى أن اللّه كان مع إبراهيم، ويدرك أن اللّه هو الذي أعطاه النجاح. هذه أعظم شهادة عن إيمان إبراهيم. كان إبراهيم رائحة ذكية استطاع الملك الوثني الغريب أن يشمَّها. وكان نور إيمان إبراهيم يسطع حتى رآه أبيمالك. نعم كان نور إيمان إبراهيم حقيقياً حتى رآه فيكول أيضاً مع أبيمالك.

ونحن اليوم نخجل عندما نذكر أن قليلين من الناس يصدق عليهم أن اللّه معهم في كل ما يصنعون. ونرجو أن تكون رائحتك أنت مثل رائحة إبراهيم الذكية، ونرجو أن يكون نورك مثل نور إبراهيم الساطع.

ثم طلب الملك الوثني من إبراهيم طلباً غريباً. قال له: "احْلِفْ لِي بِاللّهِ ههُنَا أَنَّكَ لَا تَغْدُرُ بِي وَلَا بِنَسْلِي وَذُرِّيَّتِي. كَالْمَعْرُوفِ الَّذِي صَنَعْتُ إِلَيْكَ تَصْنَعُ إِلَيَّ وَإِلَى الْأَرْضِ الَّتِي تَغَرَّبْتَ فِيهَا" (تكوين 21:23). وكان أبيمالك قد عمل معروفاً مع إبراهيم، لأنه أعطى إبراهيم بهائم كثيرة، وطلب منه أن يختار الأرض التي تعجبه ليسكن فيها في مملكة جرار، وأعطاه ألفاً من الفضة. وصلى إبراهيم إلى اللّه وطلب الغفران لأبيمالك. وها هو أبيمالك يطلب من إبراهيم أن يصنع معه معروفاً مثل المعروف الذي سبق أن صنعه أبيمالك مع إبراهيم.

كان أبيمالك يتحدث مع إبراهيم عن الهدايا والمال والأرض التي أعطاها له. لا شك أن أبيمالك لاحظ أن إبراهيم يزيد نجاحاً، وخاف أن يصبح أكثر قوة منه فيحاربه ويأخذ المملكة منه. ولا شك أن أبيمالك لاحظ أن صداقته مع إبراهيم ضعفت، فأراد أن ترجع قوية كما كانت. وكان سبب ضعف الصداقة أن إبراهيم كان متضايقاً لأن عبيد أبيمالك أخذوا منه بئراً بالقوة بعد أن حفرها، وكان حفر الآبار صعباً لأن الأرض حجرية صخرية، ولأن الماء فيها على عمق كبير. وكان إبراهيم لطيفاً مع أبيمالك فقد قال له: "أنا أحلف". ولكن إبراهيم أراد قبل أن يحلف أن يصفِّي ما كان في قلبه من نحو أبيمالك، لأن إبراهيم مُخْلص وصريح. قال إبراهيم: "لي عتاب معك". ثم حكى كيف أن عبيد أبيمالك أخذوا منه بئراً بالقوة. لقد كان الماء هاماً جداً عند إبراهيم لأنه يروي بهائمه وأرضه، فقال أبيمالك لإِبراهيم: "لَمْ أَعْلَمْ مَنْ فَعَلَ هذَا الْأَمْرَ". وعاتب أبيمالك إبراهيم وقال: "أَنْتَ لَمْ تُخْبِرْنِي، وَلَا أَنَا سَمِعْتُ سِوَى الْيَوْمِ" (تكوين 21:26). وفي هذا الكلام روح طيبة، كان الواجب أن إبراهيم يخبر أبيمالك حالاً بأن العبيد أخذوا البئر بالقوة، ولا يبقى وحده في بيته، يملأ الغضب قلبه من نحو أبيمالك.

ألا نفعل نحن الشيء نفسه؟ كثيراً ما نلوم الناس وننتقدهم مع أنهم لا يعلمون شيئاً عن سبب الانتقاد والغضب واللوم الذي نوجِّهه إليهم. لقد عمل إبراهيم الصواب عندما عاتب أبيمالك. لكن كان يجب أن يعاتب أبيمالك قبل ذلك ولا يخزن الغضب في قلبه. ففهم إبراهيم أن أبيمالك لم يخطئ، فأخذ غنماً وبقراً وأعطى أبيمالك، وقطع كلاهما ميثاقاً. وصنع إبراهيم سلاماً مع أبيمالك ومع رئيس جيشه. وكل أولاد اللّه يصنعون السلام دون أن ينتظروا فائدة من الناس. وكان إبراهيم مهتماً بعمل السلام. "وَأَقَامَ إِبْرَاهِيمُ سَبْعَ نِعَاجٍ مِنَ الْغَنَمِ وَحْدَهَا" (تكوين 21:28). فسأله أبيمالك: "مَا هِيَ هذِهِ السَّبْعُ النِّعَاجِ الَّتِي أَقَمْتَهَا وَحْدَهَا؟" فأجاب إبراهيم "هي سَبْعَ نِعَاجٍ تَأْخُذُ مِنْ يَدِي، لِكَيْ تَكُونَ لِي شَهَادَةً بِأَنِّي حَفَرْتُ هذِهِ الْبِئْرَ" (تكوين 21:29). وأطلقوا على المكان اسم "بئر سبع" لأنهما هناك حلفا كلاهما. وفي اللغة العبرية هناك شَبَه بين كلمة "سبعة" وكلمة "حلف". فيكون أن إبراهيم أقام سبع نعاج وحدها حتى يذكر أبيمالك أنه حلف لإِبراهيم وأنهما دخلا في عهد سلام معاً.

ولما لم تكن الكتابة منتشرة في ذلك الوقت، يكون أن أبيمالك يذكر السبع نعاج، ويذكر العهد مع إبراهيم كلما رأى البئر. جميل أن نحيا في سلام. ابدأ أنت بعمل السلام، فقد قال المسيح: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء اللّه يدعون".

الرب الإله السرمدي:

بعد انصراف أبيمالك وفيكول زرع إبراهيم شجر أثل في بئر سبع. والأثل شجر طويل أخضر الأوراق طول السنة، وعلى هذا فإنه يرمز إلى السلام، وكأن إبراهيم يريد أن يذكر السلام بينه وبين أبيمالك، كما يريد أن أبيمالك يذكر هذا السلام. وتحت الأثل الدائم الخضرة دعا إبراهيم باسم الرب "الإِله السرمدي". وهذه هي المرة الأولى في التوراة التي نجد فيها لقب اللّه أنه سرمدي - هذا الاسم معناه "اللّه الذي لا يتغير".

كان هذا اختباراً جديداً لإِبراهيم. علاقة إبراهيم بأبيمالك تزيد وتنقص. محبة أبيمالك لإِبراهيم ترتفع وتنخفض - لكن اللّه لا يتغير أبداً. اللّه لا يتغير مهما تغير البشر. لقد تغير مكان سكن إبراهيم: كان في أور ثم في مصر، ثم في حاران، ثم في جرار. وقد يتغير أبيمالك فيصالح إبراهيم ثم يخاصمه، ثم يصالحه. وقد تتغير سارة فتحب هاجر وتكرهها. وقد يتغير البشر جميعاً في معاملاتهم بعضهم مع بعض. لكن اللّه لا يتغير أبداً، فإن اللّه السرمدي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران.

من هذا نرى أن اختبارات إبراهيم مع اللّه كانت تنمو وتزيد. كان ينمو في معرفة اللّه كل يوم. تقول لنا التوراة أولاً إنه عرف الإِله العلي. ثم بعد ذلك الإِله القدير، وها هو يعرف الإِله السرمدي الذي لا تغيير فيه. ومعرفة المؤمن بالرب تزيد يوماً بعد يوم. في كل يوم يختبر المؤمن اختباراً جديداً. ترى يا عزيزي القارئ، هل تزيد معرفتك بالرب.

ولا نستطيع أن نختم حديثنا هذا عن حياة إبراهيم دون أن نتكلم عن علاقة المؤمن بأهل العالم. إبراهيم أب المؤمنين صنع عهداً مع الملك الوثني ليعيش في سلام. ونحن يجب أن نحيا في سلام مع أهل العالم. قدم لنا رسول المسيحية بولس وصايا عن أهل العالم، وأطلق عليهم لقب "الذين هم من خارج". قال: "اُسْلُكُوا بِحِكْمَةٍ مِنْ جِهَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ، مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ. لِيَكُنْ كَلَامُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحاً بِمِلْحٍ، لِتَعْلَمُوا كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تُجَاوِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ" (كولوسي 4:5، 6). وقال أيضاً: "لِكَيْ تَسْلُكُوا بِلِيَاقَةٍ عِنْدَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ" (1 تسالونيكي 4:12). وقال أيضاً: "وَيَجِبُ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ شَهَادَةٌ حَسَنَةٌ مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ" (1 تيموثاوس 3:7). وقال أيضاً: "مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ النَّاسِ" (رومية 12:17).

من هذا كله يجب أن نعلم أن حياتنا شهادة أمام الآخرين. إنهم يرون الديانة فينا، ويبصرون اللّه بواسطتنا سواء شعرنا أو لم نشعر. 

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع النور.
  • عدد الزيارات: 3157