إبراهيم ينقذ لوطاً
كانت سدوم وعمورة بلاداً خضراء خصيبة وغنية، لكنهما كانتا مستعبدتين لملك قاس اسمه كدر لعومر، وهو اسم كدر لعومر مكوَّن من كلمتين: "كدر" ومعناها "عبد". و"لعومر" اسم إله بلاد عيلام، فيكون اسم كدر لعومر "عبد الإله لعومر".
في السنة الثالثة عشرة ثارت سدوم وعمورة ضد الاستعمار، واتفق ملوك ثلاث بلاد قريبة مع ملكي سدوم وعمورة أن لا يرسلوا الجزية المفروضة عليهم إلى كدر لعومر. فجاء كدر لعومر ومعه جيوش ثلاث بلاد أخرى، وهاجم الملوك الخمسة. لم تكن الحرب بسيطة، لكنها كانت شديدة قاسية. وانهزم فيها ملك سدوم وملك عمورة وأصحابهما الثلاثة. وهرب ملك سدوم وملك عمورة وسقطا. وأخذ كدر لعومر جميع أملاك سدوم وعمورة من بهائم وغنم وذهب وطعام ورجال ونساء.. وأخذ لوطاً وزوجته وبناته وأملاكه من ضمن السبايا. لقد ضاع لوط مع شعب المدينة الفاسدة. انهزمت سدوم وعمورة بسبب فساد الأخلاق، كما يقول سليمان الحكيم: "عَارُ الشُّعُوبِ الْخَطِيَّةُ" (أمثال 14:34). والخاطئ يسقط دائماً ويكون سقوطه عظيماً، لأن أجرة الخطية هي موت.
ودفع لوط ثمن خطية سدوم وذهب إلى السبي. وهرب بعض أهل سدوم من الحرب إلى حبرون حيث يسكن إبراهيم، وأخبروه كيف أن الملك كدر لعومر سبى لوطاً وكل ممتلكاته وكل ما كان له. وكان يمكن أن يقول إبراهيم: "لوط خاصمني وتركني. صحيح أنه ابن أخي، لكنه عاصٍ غير مطيع، فليدفع أجرة العصيان وثمن الخصام معي، إن لوطاً يستحق كل ما جاء عليه. إنه ينال عقاب الشخص كل من يترك الكبير ويجري وراء الطمع".
لم يفكر إبراهيم أبداً في هذه الأفكار، وما إن سمع عن لوط المسكين حتى قام فوراً لينجده، فإن لوطاً ابن أخيه. إنه لحمه ودمه، وإبراهيم صاحب القلب الملآن بالمحبة. لم تكن محبة إبراهيم للوط محبة عواطف ترتفع وتنخفض، لكنها كانت محبة من الله، محبة تخدم. كانت محبة إبراهيم مثل المحبة التي وصفها رسول المسيحية يوحنا فقال: "بِهذَا قَدْ عَرَفْنَا الْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لِأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لِأَجْلِ الْإِخْوَةِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ الْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجاً، وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ اللّهِ فِيهِ؟" (1يوحنا 3:16،17) إن محبة إبراهيم محبة حقيقية.. لا تشمت، ولا تفرح بالإثم. وبهذه المحبة العاملة تحرك قلب إبراهيم، وقرر أن ينقذ ابن أخيه لوطاً.
إبراهيم يحارب:
لم نسمع من قبل أنَّ إبراهيم كان رجل حرب، ولم نقرأ أبداً أنه خرج يقتل ويحارب. بالعكس، نحن نعلم أنه رجل سلام. كان في حبرون ثلاثة رؤساء عظماء، وهم عانر وأشكول وممرا، وقد عقد إبراهيم مع هؤلاء الثلاثة عهد صداقة، لكن إبراهيم قرر أن يخلِّص لوطاً وأن يدافع عن ابن أخيه، فأخذ ثلاثمائة وثمانية عشر رجلاً من رجاله. وعندما سمع أصحابه عانر وأشكول وممرا عن عزمه، ساروا مع صديقهم المحبوب إبراهيم. خلف جيش كدر لعومر وهجموا عليه وغلبوه، واسترجع إبراهيم كل أملاك سدوم من أجل ابن أخيه لوط. وهكذا نجح إبراهيم العامل بالمحبة وانتصر وأنقذ ابن أخيه من يد الغزاة.
ووصلت أخبار انتصار إبراهيم إلى ملك سدوم، ففرح وخرج يقابل إبراهيم ويشكره. قال الملك لإبراهيم: "أَعْطِنِي النُّفُوسَ، وَأَمَّا الْأَمْلَاكَ فَخُذْهَا لِنَفْسِكَ" (تكوين 14:21). وكانت العادة أن الذي يحارب ويغلب يأخذ كل الأملاك ويترك الناس للملك الذي حارب من أجله. لكن إبراهيم كان قد تعلَّم درساً عظيماً عندما نزل إلى مصر، هو أن الله يبارك ويعطي، أما البشر فلا يستطيعون أن يعطوا. قال إبراهيم لملك سدوم: "رَفَعْتُ يَدِي إِلَى الرَّبِّ الْإِلهِ الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَا آخُذَنَّ لَا خَيْطاً وَلَا شِرَاكَ نَعْلٍ وَلَا مِنْ كُلِّ مَا هُوَ لَكَ، فَلَا تَقُولُ: أَنَا أَغْنَيْتُ أَبْرَامَ. لَيْسَ لِي غَيْرَ الَّذِي أَكَلَهُ الْغِلْمَانُ. وَأَمَّا نَصِيبُ الرِّجَالِ الَّذِينَ ذَهَبُوا مَعِي: عَانِرَ وَأَشْكُولَ وَمَمْرَا، فَهُمْ يَأْخُذُونَ نَصِيبَهُمْ" (تكوين 14:22-24).
لقد كان إبراهيم مكتفياً، ولم تستطع الغنيمة أن تغريه. علم أن الله هو مالك السماوات والأرض، وأن كل عطية صالحة نازلة من عنده. لم يأخذ إبراهيم من الأرض شيئاً، لكن السماء أعطته الكثير. وحين نذكر ما فعله إبراهيم مع ملك سدوم نذكر كيف يمكن أن يكون الإنسان منا مكتفياً ببركة الله له، وأن يكون قلبه عامراً بالشكر لله.
ردّ فعل لوط:
كان موقف لوط من عمِّه الذي أنقذه موقفاً غريباً! ملك سدوم يشكر إبراهيم لكن لوطاً لا يشكر. فإن التوراة لا تقول إن لوطاً شكر عمه إبراهيم الذي أنقذه. عرض ملك سدوم هدايا على إبراهيم، لكن لوطاً لم يفعل شيئاً من هذا. كنا نظن أن لوطاً يأتي إلى إبراهيم في شكر واعتراف، ويعتذر عن الخطأ الذي وقع فيه يوم انفصل عن عمه، ويوم فكر في نفسه فقط ولم يعمل الواجب مع عمه. ولكن لوطاً لم يفعل شيئاً من هذا. كنا نظن أن لوطاً يفكر في ترك سدوم بعد أن قاسى من الحرب والخراب، وكنا نظن أنه يطلب أن يسكن مع إبراهيم الذي أحبه ودافع عنه، لكن لوط لم يفعل شيئاً من هذا. وهذا كله يظهر لنا بطولة إبراهيم المحب. قام إبراهيم بالواجب نحو لوط، دون أن ينتظر شكراً أو تقديراً أو جزاءً، لكنه قام بواجب المحبة من أجل الإله مالك السماء والأرض. إن إبراهيم خليل الله يعطي كل واحد منا درساً في خدمة الآخرين وليس من أجل الجزاء.
درس من قول المسيح:
إن هذا السلوك الرائع من إبراهيم نحو ابن أخيه لوط، يذكرنا بقول السيد المسيح: "سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لَا تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الْآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلَا تَرُدَّهُ.
"سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الْأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الْأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لِأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِل" (متى 5:38 - 48).
- عدد الزيارات: 7545