إبراهيم يخطئ
صدَّق إبراهيم الله وأطاعه ووضع ثقته في مواعيده. وسكن في بيت إيل ومعناها بيت الله. ولكنه بدأ يسافر سفراً متوالياً نحو الجنوب متّجهاً إلى مصر. ترك الأرض التي وعده الله بها، لأن جوعاً حدث جوع في الأرض. وكان الجوع شديداً - وهو أمر عادي - لأن تلك البلاد تعتمد على المطر في ري الأرض. واهتزَّ إيمان إبراهيم بسبب نقص المطر، لأنه لم يكن معتاداً على كيفيّة ريّ الأرض بالمطر، فقد كانت الأرض في بلده أور تُروى من مياه الأنهار، ففكر أن يسافر إلى مصر التي يرويها نهر النيل، دون أن يستشير إلهه، ودون أن يأمره الرب بذلك. وسافر إبراهيم إلى مصر، وهناك لم يبنِ مذبحاً للرب كما بنى في بلوطة مورة، أو كما بنى في بيت إيل، فقد ابتعد عن أرض الموعد بجسده، وابتعد عن إله الموعد بقلبه. وفي مصر تدوِّن لنا التوراة أنه ارتكب خطأ.
ما أجمل صدق كلمة الله - فليس إنسان بدون خطأ. واحد فقط لم يخطئ أبداً، هو السيد المسيح. ولكن الله المحب يبقى أميناً لوعوده ولمحبته، لأنه هو محبة. الله لا يحبنا لأننا صالحون، ولكنه يحبنا ليجعلنا صالحين. وإن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً، لن يقدر أن ينكر نفسه (2 تيموثاوس 2:13).
السفر إلى مصر:
سافر إبراهيم إلى مصر هروباً من الجوع الذي هاجمه في كنعان، ولما اقترب من مصر قال لامرأته: "إِنَّكِ امْرَأَةٌ حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ. فَيَكُونُ إِذَا رَآكِ الْمِصْرِيُّونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هذِهِ امْرَأَتُهُ. فَيَقْتُلُونَنِي وَيَسْتَبْقُونَكِ" (تكوين 12:11 و12) أليس هذا غريباً؟ لقد نسي إبراهيم وعد الله الذي قال له: "أُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلَاعِنَكَ أَلْعَنُهُ" (تكوين 12:3). ونسي أن الله حفظه في شكيم وفي بيت إيل. ونسي أن من نسله سيأتي الذي فيه تتبارك جميع قبائل الأرض. ونسي أن نسله سيكون أمة عظيمة.
ونحن نندهش من إبراهيم: كيف يضحي بزوجته من أجل سلامته الشخصية؟ قال لها: "قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ" (تكوين 12:13). هذا أمر مخجل! ولكن ألا نرى الأنانية داخل نفوس أكبر المؤمنين؟ لكن يجب أن نذكر أن إبراهيم كان يقول نصف الحق، فإن سارة أخته من أبيه. لكن علاقته بها كزوجة تأتي قبل علاقته بها كأخت. إن إبراهيم يكذب لأنه يخفي نصف الحق، ويقول نصف الحق فقط، وفي نيته الكذب، ثم هو يجعل سارة تكذب معه. ولماذا يكذب؟.. لكي ينجي نفسه، وليكون له خير بسبب الكذب. إنه ينتظر الخير من البشر، بعد أن ذاق ألم الجوع في كنعان، وهو يرجو النجاة بمجهود الجسد، ويرمي زوجته وينسى مواعيد الله من أجل سلامة جسده ومن أجل كثرة مكسبه. لا ندري السبب الذي دفع إبراهيم إلى هذا كله، لكننا نعرف في نفوسنا سبب الخطية التي نقع فيها نحن. كم مرة كذبنا الكذب الأبيض وقلنا نصف الحقيقة وأخفينا نصف الحقيقة الآخر، فظهر نصف الحق وهو الكذب، ونسينا وصية الإنجيل: "لَا تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذْ خَلَعْتُمُ الْإِنْسَانَ الْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ" (كولوسي 3:9). وكم مرة دَفَعَنا الجوع والضيق إلى الخطية والكذب والغش والخداع، مع أن الله يستخدم الجوع ليزيد إيماننا، وليرفع نظرنا إليه. ونحن نعلم في نفوسنا كيف نفكر بأنانية أحياناً فننسى الآخرين وراحتهم، ونفتكر في راحتنا وسلامتنا فقط. نذكر كيف أخطأنا حتى نزيد ثروتنا: قبضة من حقل الجار.. ميزان غش.. كيل ناقص غير مضبوط.. كلمة كذب. لا يجب أن نلوم إبراهيم، فإننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا أكثر مما عثر إبراهيم.
فرعون يأخذ سارة:
وقالت سارة إنها أخت إبراهيم، وهذا معناه أنها غير متزوجة منه. فذهب رجال فرعون إليه يمدحون جمال سارة. وسمع فرعون فأرسل وأخذ سارة إلى بيته. ويقول التاريخ العالمي إن إبراهيم سكن في مدينة أون المصرية زماناً طويلاً، وكان يعلّم المصريين علوم الفلك والرياضة، وهي علوم كان يعرفها أهل بابل. وكان إبراهيم يُصلح بين الكهنة المصريين في منازعاتهم الدينية، فأعطوه كثيراً من الهدايا. وتقول التوراة إن فرعون صنع إلى إبراهيم خيراً بسبب سارة، وصار له غنم وبقر وعبيد وحمير وإماء وأتن وجمال. وكانت هاجر هدية من فرعون أيضاً. ونحن لا نعلم ما هي الضربات التي نزلت على فرعون، ولكن فرعون عرف أن هذا كله كان بسبب سارة زوجة إبراهيم. لعل سارة قالت لفرعون إنها زوجة إبراهيم، فاستدعى الفرعون إبراهيم وسأله: "لِمَاذَا قُلْتَ هِيَ أُخْتِي، حَتَّى أَخَذْتُهَا لِي لِتَكُونَ زَوْجَتِي؟" (تكوين 12:19). واضحٌ من هذا الكلام أن فرعون لم يكن قد تزوج من سارة، فقد كانت عادة الملوك أن يختاروا الفتاة ويتركوها للتجهيز قبل الزواج فترة طويلة. لكن الضربات التي جاءت على فرعون جعلته يبحث عن سبب البلوى التي حلّت به، وعندما عرف أنها بسبب سارة قال لإبراهيم: "الْآنَ هُوَذَا امْرَأَتُكَ! خُذْهَا وَاذْهَبْ" (تكوين 12:19).
لا شك أن خجلاً كبيراً أصاب إبراهيم بسبب الكذب. وبالرغم من أنهم أعطوه البقر والحمير لكنهم أخذوا منه زوجته! وكان إبراهيم سبباً في مجيء المصائب على الآخرين، فقد وقع عقاب الله على فرعون وعلى بيته، مع أنهم أبرياء. وجاءت المصيبة على إبراهيم نفسه. فقد وبَّخه فرعون على الكذب. وكم هو مؤلم أنَّ أهل العالم يوبِّخون أولاد الله. كان الواجب أن يتعلم فرعون الاستقامة من إبراهيم، لكن العكس حدث.
إبراهيم يتعلم أكثر عن الله:
أخطأ إبراهيم خطأ كبيراً عندما كذب وقال عن سارة زوجته إنها أخته. لكننا نشكر الله الذي لم يترك إبراهيم، فقد حفظه حتى وهو يخطئ. هل يمكن أن مقاصد الله تتغيَّر؟ لقد سقط إبراهيم، لكن قصد الله لا يسقط ووعده لا يتغير. هنا لا يجب أن ننظر إلى إبراهيم الضعيف قدر ما ننظر إلى الإله الطيب المحب الذي يعرف جبلتنا ويذكر أننا تراب نحن. وتقول التوراة إن فرعون أوصى رجاله فشيَّعوا إبراهيم وامرأته وكل ما كان له خارج حدود مصر. فصعد إبراهيم ومعه لوط إلى بيت إيل، وعاد إبراهيم إلى حيث كان، إلى مكان المذبح الذي عمله هناك أولاً، ودعا باسم الرب.
عاد إلى مذبحه القديم بعد أن تعلَّم أكثر عن الله. عرف أولاً أن الله إله الحق والطهارة. كان يعرف أن الله عظيم، لكنه لم يكن يدرك أن الله يحب الطهارة، ويحب الحق ويحب أولاده. لو كان إبراهيم عاد إلى كنعان بدون توبيخ من فرعون، لكان يظن أن تدبيره الجسدي نجح لكن فرعون وبَّخه، فكان فرعون الوثني أول من علّم إبراهيم درساً عن قداسة الله.
وهناك درس آخر تعلَّمه إبراهيم، تعلّم أن الله إله الغفران. لقد سقط وكذب لكن الله غفر له. كان يمكن أن يسحب الله مواعيده منه، ولكن الله طويل الروح وكثير الرحمة، رحم إبراهيم وغفر له خطيته.
وعرف إبراهيم درساً ثالثاً، عرف كيف يتكل على الله. حين دخل مصر كان يظن أنه يقدر أن يتكل على ذكائه وحكمته وتدبيره ليخلص نفسه، ولكنه خرج من مصر وقد تعلَّم درساً في الاتكال على الله القادر وحده أن ينجي، فإن الطريقة التي رسمها إبراهيم للنجاة عن طريق الكذب لم تنجح، لكن الله أنقذه بيد رفيعة وذراع ممدودة.
عزيزي القارئ، وأنت تتعامل مع الله أرجوك أن تحترس من نقطة الضعف التي فيك، كما تحترس من النقطة القوية التي فيك. لقد كان إبراهيم رجل الإيمان، وهاجم الشيطان إيمانه وجعله يشكُّ في مواعيد الله. تمسَّكْ بالله واحترس، فما أجمل قول المسيح: "اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلَّا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ" (متى 26:41).
- عدد الزيارات: 6643