مقدمة قيامة المسيح
من المسلّم به أنّ الإنجيل لم يذكر أنّ يسوع بعد قيامته ظهر لأحد من خصمائه رؤساء الكهنة والكتبة والفرّيسيّين، الذين حكموا عليه، أو الجند الرومان الذين صلبوه. وإنّما اقتصرتْ ظهوراته على معشر تلاميذه ومُريديه. هكذا جاء في شهادة بطرس: »وَنَحْنُ شُهُودٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ فِي كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي أُورُشَلِيمَ. الَّذِي أَيْضاً قَتَلُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ. هذَا أَقَامَهُ اللّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَعْطَى أَنْ يَصِيرَ ظَاهِراً، لَيْسَ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ، بَلْ لِشُهُودٍ سَبَقَ اللّهُ فَانْتَخَبَهُمْ. لَنَا نَحْنُ الَّذِينَ أَكَلْنَا وَشَرِبْنَا مَعَهُ بَعْدَ قِيَامَتِهِ مِنَ الْأَمْوَاتِ. وَأَوْصَانَا أَنْ نَكْرِزَ لِلشَّعْبِ، وَنَشْهَدَ بِأَنَّ هذَا هُوَ الْمُعَيَّنُ مِنَ اللّهِ دَيَّاناً لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ. لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا« (أعمال 10:39-43).
صحيح أنّ أوّل ما يتبادر إلى ذهن الإنسان الطبيعيّ، أنّ القيامة كانت ستجد دليلاً أكثر إقناعاً، لو أنّ يسوع بعد قيامته من الأموات ظهر لأعدائه كما ظهر لمريديه. ولكن هنا أرى مناسباً أن أقول، بأنّه لا يوجد دليل يرغم شخصاً، على قبول عقيدة خاصّة، إزاء حادثة معيَّنة، متى كان ذلك الشخص عاقداً نيّة مقدَّماً، على رفض تلك الحادثة، لأنّها تتناقض مع نظريّة أو عقيدة لا يُسلَّم بها. وقد ظهر في فجر التاريخ المسيحيّ أنّ فئة من الناس زعموا أنّ المسيح لم يمت على الصليب، مع أنّ الدليل المقنع المؤيّد لصحّة الصلب لا يمكن المكابرة فيه. وعلّة هذا الإنكار، لا علاقة لها بالدليل نفسه. وإنّما مصدرها فكرة نظريّة، قائمة على أنّ هذا الموت، لا يتّفق مع ألوهيّة يسوع.
فشهادة الأعداء أو الأشخاص الآخَرين غير تلاميذ المسيح، لا تقنع شخصاً صمّم على أن لا يقتنع، مهما كانت الأدلّة قويّة. وأمّا إن كانت عقليّة الشخص طليقة من كلّ تعصّب، فشهادة التلاميذ تكون في نظره أقوى أثراً في الإقناع من أيّة شهادة أخرى. فمثلاً إذا حصل شكّ في تعرّف أيّة شخصيّة، فإنّ شهادة الذين التقوا بذلك الشخص عرضاً، تكون أضعف من شهادة الذين عاشوا معه في أقرب الصلات، ولم يعرفوا فقط شكله الخارجيّ. بل عرفوا أيضاً فكره ولهجة كلامه، وفوق كلّ شيء، شعروا بما له من النفوذ والتأثير عليها.
لقد ثبت في فكر بعض المعترضين ما يقوله العلاّمة هكسلي وأمثاله، من أنّ معجزة القيامة هي ضدّ نواميس الطبيعة، وهي الشيء الذي، لا يمكن أن يحدث. ويزعمون أنّ ما حدث هو أحد الأمور التالية:
(1)أنّ يوسف الرامي نقل الجسد خفية إلى مكان آخر أكثر ملاءمة.
(2)أنّ السلطات الرومانيّة، نقلت الجسد تجنّباً لأيّ شغب ممكن الحدوث.
(3)أنّ السلطات اليهوديّة، نقلت الجسد، حتّى لا تخلع على ضريحه أسباب التكريم مستقبلاً.
(4)أنّ يسوع لم يمت موتاً حقيقيّاً.
(5)أنّ النسوة حاملات الطيب أخطأنَ القبر.
(6)أنّ القبر لم يزره أحد والقصّة كلّها إختلاق.
(7)رواية اليهود أنّ التلاميذ سرقوا الجسد بينما كان الحرّاس نياماً.
أغلب الظنّ أنّك لا تنتظر منّي تفنيداً منطقيّاً لكلّ من هذه المزاعم، لأنّك كما يبدو لي ترفض سلفاً الإقرار بحقيقة القيامة. ولكنّ إيماني بقيامة ربّ المجد يحملني على تسجيل الملاحظات التالية:
أوّلاً:كان يوسف الرامة من حزمة تلاميذ الربّ، الذين اشتهروا بالصدق والأمانة، ولهذا أراه مُحالاً أن يفعل شيئاً من هذا لخداع الناس. ولو أنّه فعل لسبب ما لكان أخبر به، لأنّه ورفاقه قد تربّوا في مدرسة المسيح القدّوس الحقّ. ووصلوا إلى أعلى مستوى، ممكن أن يصل إليه إنسان في الآداب والأخلاق.
ثانياً:لو أنّ الجسد نُقِل بأمر أحدى السلطتين الرومانيّة أو اليهوديّة، لكان أيسر على اليهود أن يشيروا إلى القبر الذي نُقِل أليه. وبذلك لا يتركون للمسيحيّة فرصة للإدّعاء بأنّها صاحبة القبر الفارغ. وهل كان بيلاطس الذي لم يرضخ لليهود لتغيير العنوان الذي كتبه على الصليب، يرضخ لهم لتغيير مكان الجسد؟ وخصوصاً أنه كان يومئذٍ في دوّامة من تبكيت الضمير ولوم زوجته، وما أصابه من جرح كرامته، حين هدّده اليهود بالشكوى عليه أمام قيصر إن كان لا يصلب المسيح.
ثالثاً:أنّ القول بأنّ المسيح لم يمت وإنّما أُغمي عليه أو تظاهر بالموت، على ما فيه من هزال وضعف بعيد عن المنطق، يبرهن أنّ القائلين به لم يدرسوا قصّة الصليب. ويظهر فساد ادّعائهم في كون اليهود والرومان صلبوه قصد إماتته وجرحوه جراحاً مميتة، حتّى تحقّقوا من موته. وقد تحقّقوا فعلاً حين طعنه الجنديّ الرومانيّ بحربة نفذت إلى شغافه. وبعدما تحقّقوا من موته سمحوا بدفنه وختموا قبره وأقاموا حرّاساً عليه. وهناك أمران تجاهلهما المدّعون في أمر موت المسيح.
الأمر الأوّل صرخة المسيح حين قال، قبل أن يلفظ النفس الأخير: »يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي« (لوقا 23:46). والأمر الثاني، هو أنّهم لم يقيموا وزناً لشهادة قائد المئة عن موته السريع. قد يذهب البعض إلى القول: إنّ الوقت الذي قضاه المسيح على الصليب غير كافٍ لموته، ولكنّ هذا الرأي يسقط تماماً، حينما نذكر أنّ الجلدات العديدة التي نالها المسيح خلال المحاكمات، التي أجريت له قبل تعليقه على الصليب، قد أصابت جسده بالضعف حتّى أنّه عجز عن حمل صليبه، وكان لا بدّ لقائد المئة أن يسخّر رجلاً ليحمل الصليب نيابة عنه، فكان من البديهيّ إذاً أن يموت هكذا سريعاً.
رابعاً:أنّ الأكذوبة اليهوديّة، القائلة بأنّ التلاميذ سرقوا الجسد، بينما كان الحرّاس نياماً، لا يمكن أن يصدّقها أحد. لأنّ القبر كان مضبوطاً بأمر بيلاطس البنطيّ الرومانيّ، والحرّاس كانوا بحسب القانون العسكريّ يتناوبون الحراسة بكلّ دقّة، بحيث من غير المعقول أن يناموا جميعاً، لأنّ ذلك يعرّضهم لعقوبة الموت. وهناك عين الرقابة اليهوديّة، التي كانت تترصّد تلاميذ الربّ، وتراقب تحرّكاتهم. فلو أنّ التلاميذ استطاعوا بطريقة ما أن ينقلوا جسد سيّدهم إلى مكان آخر، لعرفوا به، واتّخذوا من الأمر حجّة دامغة لإسكات بطرس، حين أعلن قيامة المسيح بصوت جهوريّ، وفي الهيكل، بعد أن يقدّموا الدليل المادّيّ على وجود الجسد في مكان آخر.
أمّا بقيّة الإعتراضات، فلا أرى أنّها تستحقّ المناقشة نظراً لسخافتها ولأنّني أودّ تكريس ما تبقّى من ردّي لتقديم بيان مفصّل لحوادث القيامة وظهورات المسيح المقام لمختاريه.
- عدد الزيارات: 2433