Skip to main content

الفصل الثالث: بمَن نشِّبه الله؟

في وقت ما من الحياة يتساءل معظم الناس: "بمن نشبِّه الله؟". ومع أن الله أعدّ جواباً لهذا السؤال، إلا أن هناك من يفضّلون الاعتماد على تصوُّرهم وتخمينهم لله، بدلاً من أن يقرأوا ما قاله عن نفسه في كتابه، فقد قال: "نَعْمَلُ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا" (تكوين 1:26). فالإنسان على صورة الرحمان. ولكن كأنهم يقولون: "لنعمل الله على صورتنا". وبهذا "أَبْدَلُوا مَجْدَ اللّهِ الَّذِي لَا يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى" (رومية 1:23). وكل إله اخترعه خيال إنسان جاء إلهاً عاجزاً مغايراً للحقيقة!

ومهما بلغ اجتهاد الإنسان، فهو لا يقدر بحكمته الذاتية أن يكتشف الله الحي، لأن العالم لا يعرف الله بالحكمة البشرية بل بالإعلان الإلهي (1كورنثوس 1:21). فلو كان ممكناً أن نكتشف الله بالاجتهاد الإنساني فإنه يكون (حاشا لله) أقل من عقل الإنسان. ليس هذا فقط، بل إن كان الاجتهاد الإنساني ضرورياً لاكتشاف الله، فماذا يفعل البسطاء من البشر؟! والأمر غير ذلك، فالحكمة الروحية مُتاحة لكل إنسان، وبنفس القدر، لسيِّدة أُمِّية تتوكأ على عكاز كما لأستاذ جامعي، ولا تُكتسب الحكمة الروحية في المدارس، لكنها مُتاحة لكل من يتَّضعون بالكفاية حتى يدركوا احتياجهم لمساعدة الله في بحثهم عنه. "إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلَا يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ" (يعقوب 1:5). وهذا النوع من الحكمة ليس دنيوياً بل سماوياً. إنها الحكمة "الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ (أي قادة نظامنا العالمي) وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللّهِ، لِنَعْرِفَ الْأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللّهِ" (1كورنثوس 2:8-12).

وليس الكتاب المقدس مجرد أحاديث دينية، لكنه سجلّ يعلن الله ذاته فيه للإنسان. والله وحده يعطيك الحكمة الروحية التي تحتاجها لتفهم من هو، وما الذي يريد أن يجريه في حياتك. فإذا سألته فإنه قريب يجيب دعوة الداعي، وسيعلن لك ذاته من خلال كلمته المقدسة.

في سفرياتنا وجدنا اشتياقاً وبصيرة روحيين عميقين في كل مكان، ووسط أناس قد يظن البعض أن الأمور الروحية لا تعنيهم. ذات يوم قابلنا مجموعة أولاد أفريقيين في أدغال كينيا. وبينما كنا نتحدث معاً أظهروا شغفهم العظيم بالأمور الروحية، وأرادوا أن يحدِّثونا عن إيمانهم، وأن يتعلّموا أكثر عن الله. ولما غابت الشمس الاستوائية وراء الأفق، وانتهى يومٌ طويلٌ مليء بالعمل، جلستُ على صخرة بجانب زقاق كينيٍ مُترِب لأستريح، فسمعت حركة في الأدغال. ولما التفتُّ رأيت في ضوء القمر عينين سوداوين واسعتين لصبي في العاشرة، سرعان ما جاء وجلس بجانبي، فجعلنا نتحدث. وبسرعة أصبحنا صديقين. وانضمّ إلينا أولاد آخرون سمعوا صوتنا. وأذهلتني معرفتهم بالكتاب المقدس. وسألني صديقي الجديد الصغير: "لماذا لم يسمح الله لموسى أن يرى وجهه؟". وأجبتُه بأن سألتُه إن كان يستطيع أن يتذكر صلاة موسى قبل قول الله له: "ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي. وَأَمَّا وَجْهِي فَلَا يُرَى" (خروج 33:23). ولكنه لم يتذكر. فقلت له إن موسى قال لله: "أَرِنِي مَجْدَكَ" (خروج 33:18). أي أن موسى طلب من الله أن يعرف ماذا يشبه الله. وهذا السؤال يمثِّل مشكلة، لأن مجد الله أبعد جداً من أن يقدر موسى على استيعابه أو فهمه، فقداسة الله ونوره أشبه بنار آكلة، حتى أن الله حذَّر "الْإِنْسَانَ لَا يَرَانِي وَيَعِيشُ" (خروج 33:20).

لم يعلم موسى تماماً عظمة مجد الله، ولكن الله المحب الذي يعلن عن نفسه للبشر ليجتذبهم إليه، أعلن نفسه لموسى على قدر ما استطاع النبي أن يحتمل. ولو أن الله أظهر كل مجده لموسى لَفَنِي موسى تماماً من لمعان حضوره! فأخفى الله ملء مجده عنه، ومرَّ مجد الله حيث كان موسى، وموسى مختبئ في نقرة من الصخرة (خروج 33:22).

وفهم أصدقائي الصغار الفكرة. إنهم لا يقدرون أن يحملقوا في ضوء الشمس اللامع دون أن يغطوا عيونهم، كما كانوا يعلمون أن الفراشات تطير حول النور، لكنها تحترق إن اقتربت منه أكثر من اللازم!

وقدمت لهم مثلاً آخر: كانوا يعرفون القماط الذي تلف فيه أمهاتهم إخوتهم الرُّضع، والذي يعطي الرُّضَّع أماناً بالقرب من قلوب أمهاتهم المليئة بالمحبة والعناية الرقيقة. عندئذ حدَّثتهم عن القماط الذي لفَّه الله حول الأرض (أيوب 38:9)، ويسميه العلماء طبقة الأوزون، وهو غطاء رقيق من الأوكسجين يصفّي أشعة الشمس فوق البنفسجية التي تسبِّب السرطان. ومعروف أنه بدون الشمس لن توجد حياة على كوكب الأرض. ولكن عناية الله الرقيقة حمَتْنا من جرعة زائدة من الطاقة الشمسية ومن آثارها المسبِّبة للسرطان.

بدا على أصدقائي الصغار شغفهم بالقماط الذي صنعه الله، والذي يحمينا من كل الحروق المتعِبة. واستجابت قلوبهم الصغيرة برقَّة إلى حب الله، وقضينا وقتاً طيباً في الصلاة معاً. لقد عرفوا فعلاً وبطريقة شخصية نفس الحماية التي تمتع بها موسى في سؤاله عن الله.

وقد أعطانا الله فهماً أكمل لذاته لما أخبرنا بأسمائه. والأسماء في الكتاب المقدس هامة جداً، لأن معناها يعلن ملامح شخصية حاملها. وكل اسم يُشير لله له معنى خاص، ويكشف جانباً فريداً لشخصه الإلهي.

وتقدم التوراة ثلاثة أسماء أساسية لله هي: يهوه وإلوهيم وأدوناي. وكل اسم له معنى خاص. فإلوهيم في العبرية هو نفسه "الله" في العربية. وهو أول اسم استعمل لله في التوراة، وورد أكثر من ألفي مرة. ويتكون من ثلاثة مقاطع "أل - إيل - هيم". و"أل" هي أل التعريف، و"إيل" اسم الله الشخصي وتعني قوة. أما "هيم" فهي في محل خبر لمبتدأ. (المبتدأ إيل والخبر هيم). ومن المهم أن نلاحظ أن الاسم "إلوهيم" جاء في صيغة الجمع. وواضح أن اللغة العبرية، ومثلها العربية، فيهما المفرد والمثنَّى والجمع. والاسم "إلوهيم" ليس مفرداً ولا مثنى، بل في صيغة الجمع! ومع ذلك فهناك حقيقة أخرى واضحة في كل الكتاب المقدس، وهي أن الرب إلهنا رب واحد (تثنية 6:4).

وهكذا ففي أول آية من الكتاب المقدس يعلن فيها الله نفسه للإنسان، نتقابل مع الله "ثلاثة في واحد" و"واحد في ثلاثة"" وذلك في القول الكريم: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللّهُ (إلوهيم) السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" (تكوين 1:1) وهذه الوحدة المثلثة هي ما نسميه "الثالوث" وهذا يعني أن وحدانية الله جامعة مانعة.

بعد هذه الملاحظة الأولى عن الوحدة المثلثة لله نقرأ: "وَقَالَ اللّهُ: نَعْمَلُ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا" (تكوين 1:26). وواضح أن كلمتي "صورتنا" و"شبهنا" هما في صيغة الجمع. ولكن في الجملة التي تليها فوراً نقرأ: "ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ" (تكوين 1:27). وليس "خلقوهم" فالخالق واحد. وهكذا نقرأ عن "واحد" هو "أكثر من واحد"!

إن إلهاً كهذا أبعد جداً من أن تفهمه الحكمة الدنيوية، ولهذا أعطانا الله "الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللّهِ، لِنَعْرِفَ الْأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللّهِ" (1كورنثوس 2:12) بداية من هذه المؤشرات الأوَّلية عن ذاته الإلهية. وتدريجياً أعلن لنا مجده الأبدي ووحدته المثلثة.

إن فهم هذا المضمون عن الله "ثلاثة في واحد" و"واحد في ثلاثة" سيساعدك فيما بعد لتدرك بعض عرض وطول وعمق وعلو محبة الله لك، الذي في محبته يكشف لك نفسه بالتدريج من خلال بقية آيات الكتاب المقدس، لتتعرَّف على الله الآب الذي خلقك، والله الابن الذي فداك، والله الروح القدس الذي يقدِّسك. ومع ذلك فهو الله الواحد.

إن عقولنا الإنسانية لا تستوعب إلا جزءاً ضئيلاً من هذا المعنى، لأنه من المستحيل أن نكتشف الله الحي وندركه في كماله، ولذلك أخذ الله بنفسه زمام المبادرة وعرَّفنا بنفسه. إن الإعلان الكامل لمجد الله وقداسته كان مخفياً عن عيني موسى. وقد تحنَّن الله علينا في المسيح، وكشف "إلوهيم" لنا نفسه على قدر ما نحتمل. والله "الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللّهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (2كورنثوس 4:6). وعندما تأمل يوحنا في وجه المسيح أعلن: "وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الْآبِ" (يوحنا 1:14). ثم سجَّل يوحنا اختباره الشخصي مع الله الذي التقى به في شخص المسيح، وعاش ليروي لنا اختباره مع الله الأبدي، إله الخليقة - إله موسى. وكان لقاؤه هذا مسموعاً مرئياً ومحسوساً، فكتب يقول: "اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا" (1يوحنا 1:1).

إن ما سجله يوحنا لا ينتمي إلى علم اللاهوت المجرَّد، بل هو شهادة اختبار شخصي عن معرفته بالله الحي. وربما تتساءل: "كيف يمكن لذلك أن يساعدني؟" ويسرع يوحنا ليجيبك بقوله: "وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً" (1يوحنا 1:4).

وهذا الكتاب بين يديك الآن لأن هناك صديقاً يشتاق أن يكون لك أنت أيضاً ملء الفرح. إن فرحاً كاملاً كهذا سيغمر حياتك، كنتيجة لاختبار شخصي وصداقة حيَّة مع الله، كما قال يوحنا: "الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الْآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً" (1يوحنا 1:3 و4).

وكجاذبية النور في ليلة مظلمة، هكذا نور مجد الله ما زال يجذب البشر إليه اليوم. فإذا رغبت أن تعرف بمَن نشبِّه الله، تستطيع أن تصلي مع موسى: "أرني مجدك".

وقفة للتفكير

هل فكرت أن تقرأ الكتاب المقدس بتفكير واعٍ وأنت تبحث عن الله؟

هل تسأل الله أن يعلن لك ذاته وأنت تقرأ الكتاب المقدس؟

صلاة مقترحة: "اللهم، إن كنت أنت الإله الذي خلق الكون، وإن كنتَ تحبُّني، فاكشف لي عن ذاتك، وعرِّفني إن كان يسوع المسيح هو ابنك، وإن كان هو المخلِّص الوحيد".

هل أدركت أنك إن كنت تريد أن تعبد الله بالحق، فإنه يجب أن يكون:

أعظم من قدرتك على اكتشافه بالبحث الإنساني،

وأعظم من قدرتك على فهمه الكامل بعقلك البشري.

"أظن أني أفهم الطبيعة الإنسانية بعض الشيء، وأقول إن كل الأبطال القدماء كانوا رجالاً، وأنا رجل. ولكن ليس للمسيح نظير. إنه أكثر من إنسان" (نابوليون). 

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع النور.
  • عدد الزيارات: 3101