Skip to main content

القسم الثاني

"و(أؤمن) بربنا يسوع المسيح ابنه الوحيد، الذي حُبل به
من الروح القدس ووُلد من مريم العذراء، وتألم على عهد
بيلاطس البنطي وصُلب ومات ودُفن، وقُبر.
وقام أيضاً في اليوم الثالث من بين الأموات، وصعد إلى السماء، وهو جالس عن يمين الله الآب الضابط الكل،
وسيأتي من هناك ليدين الأحياء والاموات".

في هذا النص من قانون الإيمان نقر بالقضايا التالية كأمور جوهرية في العقيدة المسيحية وهي:

حضور الله في الجسد.

بنوّة المسيح.

عمل المسيح الكفاري.

مجيء المسيح ثانية.

حضور الله في الجسد

قد يبدو لأول وهلة وكأنّه أمر مستحيل على الله أن يصدر منه عمل مثل هذا، لأنّ عقلنا يرفض ولا يقبل به. فكيف لله العلي أن ينزل إلى مستوى البشر؟ حاشا لله العلي أن يتساوى ومخلوقه الإنسان. الحق يُقال إنّه بتفكيرنا هذا، نضفي على الله تعالى صفة العجز وعدم القدرة على فعل ما يشاء. فكيف لا يظهر في جسد بشري وهو القدير على كل شيء؟ فلماذا يستحيل عليه التجسد؟ أليس هو القادر على كل شيء؟ فالتجسّد بالنسبة له ليس بمستحيل، ما دام لا يتعارض مع صفاته وقدرته، ودون أن يفقد أو يقلل من سلطانه وجلاله السامي. إنّ في تجسد الله وحلوله بين البشر سمواً عظيماً. ففكرة التجسّد ليست وليدة فكر الإنسان بل هي إعلان من الله للبشرية جمعاء، وهي التي انقسمت فيما بينها بين مصدِّق ومكذّب، إلى مؤمن وجاحد. "لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللّهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ" (رومية 1:21).

كان الله في القديم يعلن عن ذاته للبشر بواسطة الأنبياء والرسل والملائكة خدامه الأطهار. إلا أنّه أخيراً أعلن عن ذاته من خلال المسيح يسوع كلمته المتجسّد. فالمسيح هو سر الله المعلن. الكلمة الذي صار بشراً. فمعرفتنا المسيح يسوع هي معرفة الله الصمد، كما صرّح يسوع بقوله: "اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْآبَ... أَنَا فِي الْآبِ وَالْآبَ فِيَّ" (الانجيل حسب البشير يوحنا 14:9-10).

الله في المسيحية، كما قال الدكتور ميشيل الحايك "هو غيب وحضور". فليس هو ذلك الإله البعيد في سمائه، المحجوب عن عباده، بل أصبح حاضراً في المسيح يسوع وفي المؤمنين به، ومحجوباً وغائباً عن أولئك الذين امتنعوا عن قبول إعلانه في المسيح يسوع. فالمسيح يسوع هو التنزيل ذاته. وهذا أعمق ما يمكن أن يكشفه الله لعباده. ففي المسيحية نجد ذروة الإعلان أو التنزيل. كلمة الله صار بشراً وخاطبنا مباشرة. وكان لا بد من أن يتّخذ لنفسه هيئة مثلنا ليكلمنا من خلالها، كي نفهم عنه أمره ونهيه ونسلك في النهج الذي ارتضاه لنا.

كان الوحي قبل المسيح إلهاماً وتنزيلاً، فصار في المسيح كشفاً ذاتياً. قال المسيح له المجد: "أَنِّي أَنَا فِي الْآبِ وَالْآبَ فِيَّ؟ الْكَلَامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الْآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الْآبِ وَالْآبَ فِيَّ" (الانجيل حسب البشير يوحنا 14:10-11). كما نقرأ في الانجيل أيضا: "اَللّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلِابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الْآبِ هُوَ خَبَّرَ" (الانجيل حسب البشير يوحنا 1:18). والبنوة في المسيحية لا يراد بها المعنى الحرفي للكلمة، وكأن لله مولود. حاشا لله هذا، بل إنها تحمل معنى روحياً محضاً لا صلة لها بالمفهوم البشري الذي يحمل فكرة التناسل كما هو الحال مع البشر، ولا الفيض كأن الله فاض عنه فكره فتجسد في المسيح كما هو التصور عند فلاسفة الإغريق قديماً ولا هو تحول وتطور الإنسان الى الألوهية. بل البنوة تعني إعلان الله أي الوحي المنظور.

بنوّة المسيح

عندما نتحدث عن بنوّة المسيح لا نشير على الإطلاق إلى أية علاقة جسدية تناسلية، كما يعتقد البعض عند سماعهم كلمة ابن.

البنوة في المسيحية لا تُفهم إلا من وجهة نظر مفهوم الثالوث الموحد. فهي تختلف كلياً عن أي مفهوم للبنوة، أكانت بالمفهوم البابلي أو المصري أو الروماني أو اليهودي.

كان المصريون يعتبرون ملوكهم أبناء الله بالجسد بطريقة أسطورية متولوجية. بينما البنوة عند البابليين كانت بمفهوم التبني الشرعي. وهذا المفهوم البابلي هو الذي تبناه البلاط الملكي الإسرائيلي. فنجد الاشارة إليه في مواضع متعددة من العهد القديم. فالملك عندهم كان ابن الله، وهذا لا يعني أنّ الله ولده بالجسد، بل اختاره وتبناه. يقول الله للملك: "أَنْتَ ابْنِي. أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" (سفر المزامير 2:7).

كما أنّ الشعب اليهودي برمته كان يعتبر نفسه ابناً لله. ونجد هذا في سفر الخروج (أحد أسفار التوراة) عندما أمر الله موسى أن يكلم فرعون بقوله: "فَتَقُولُ لِفِرْعَوْنَ: هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: إِسْرَائِيلُ ابْنِي الْبِكْرُ. فَقُلْتُ لَكَ: أَطْلِقِ ابْنِي لِيَعْبُدَنِي، فَأَبَيْتَ أَنْ تُطْلِقَهُ. هَا أَنَا أَقْتُلُ ابْنَكَ الْبِكْرَ" (سفر الخروج 4:22-23). وبهذا فالشعب اليهودي بأكمله كان يُعتبر ابناً لله على أساس اختيار الله له. أما الملك فكان ابن الله بنوع فائق، فهو مسيح الله بمعنى مفروز ومكرّس لخدمة خاصة.

أمّا البنوة في المسيحية فقد تخطت جميع هذه المفاهيم، فهي تختلف عنها كل الاختلاف. وهي تسمو على المفهوم اليهودي، الذي اعتبر البنوة مجرد تبنّي. ولو لم يكن المسيح يخالف اليهود في مفهومهم للبنوة، لما قاموا ضده يعادونه ثم يترقبون الفرص السانحة للقبض عليه وإدانته ثم محاكمته. لأنّ المسيح صرّح علانية بأنّه في الله والله فيه، وبأنّه متّحد في الله. ولا شيء يعمله أو يقوله من ذاته منفصلا عن الآب. وحتى تلاميذ المسيح لم يدركوا عمق البنوة التي كان يشير إليها المسيح من حين لآخر. فقد كان المفهوم اليهودي للبنوة مسيطراً على عقولهم، ولم يتحرروا منه إلا بعد أن حلّ الروح القدس عليهم وأنار عقولهم. فاتّضح مفهوم البنوة بأكثر وضوح وجلاء، وتغلغل المفهوم الجديد في أعماقهم. وانطلقوا بكل شجاعة وبسالة دون تردّد ليعلنوا للجميع هذا السر العجيب، وهو حضور الله في الجسد. وهكذا حررهم الروح القدس من المفهوم العتيق وأزاح الغشاوة عن بصائرهم، وفهموا أنّ المسيح هو كلمة الله المتجسّد. "الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الْآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً" (الانجيل حسب البشير يوحنا 1:14). فبواسطة الوحي الإلهي تبين لهم ما أُخفي عن أبصارهم وأفئدتهم، أن المسيح يسوع هو إعلان الله أي الوحي المنظور _ صورة الله غير المنظور _ (كولوسي 1:15 ) ونطق الله الذاتي (يوحنا 1:1).

في الابن أعطى الله لعباده أن يعرفوه عن قرب كي لا يبقى محجوباً بعيداً عن خلقه، فالله لا يُرى ولا يمكن أن تدركه الأبصار والعقول، لذا كان من الضروري أن يعلن عن ذاته من خلال التجسد، اَللّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلِابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الْآبِ هُوَ خَبَّرَ (يوحنا 1:18)، وكلمة "خبّر" هنا تفيد الكشف أي كشف الله ما أُغلق على الأفهام وما لم يدرك كنهه البشر، وقيل في المسيح كذلك إنه الله الظاهر في الجسد (1تيموثاوس 3:16). كما أن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي 2:9)، و"ملء" تعني في كامله، أو كمال الألوهية جسدياً. فبما أن الله كامل من كماله التجسد والظهور في صورة البشر، لقد أصاب الحلاج الفيلسوف الصوفي عين الصواب عندما أنشد قائلا:

سبحان من أظهر ناسوته سرَّ سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل الشارب.

عمل المسيح الكفاري

لم يكن التجسّد أو الظهور الالهي اعتباطياً بلا غاية أو قصد، بل كان من أجل إنقاذ الجنس البشري كله من القصاص المحتوم على كل خاطئ انقاد وراء الضلال وحاد عن الصراط المستقيم، بتماديه في غوايته وضلاله وعصيانه لوصايا الله ونواهيه. والإنسان هو ساقط بطبيعته لأنّه وارث الخطية وهي متأصلة فيه، لأنّه ابن آدم وحواء اللذين أورثا روح العصيان والتمرد للانسانية جمعاء، لأنّهما سقطا أولاً قبل الكل، فانتقلت العدوى من جيل إلى جيل دون أن تستثني أحداً.

ولانّه وارث الخطية، أصبح بطبعه ميالاً للتمرد على الله وعصيانه، ولم يقدر بالتالي أن يستأصل الخطية من ذاته. فراح يجري وراءها يتجرّع سمومها، ويلتذّ بطعمها القاتل.

وقبل أن نتطرق لموضوع الخلاص والمخلّص، علينا أولاً أن نفهم معنى الخطية، وهذا حتما يقودنا لمعرفة الخاطئ.

مفهوم الخطية

جاءت الخطية من خطأ ومعناها "عدم إصابة الهدف". والخطية تعني ارتكاب الذنب والإثم. وهي ليست الشر الشنيع فحسب، كما يظن البعض، بل هي كل ما هو انحراف وابتعاد عن أمر الله ونواهيه. فالخطية في أصلها ابتعاد الناس عن الله وإرادته الصالحة.

من هو الخاطئ؟

الخاطئ في نظر الله هو الذي انفصل عنه، سواء ارتكب خطايا كثيرة، أو فعل خطية واحدة، وسواء أكانت هذه الخطية بالفعل أم بالقول أم بالفكر، سوداء أم بيضاء، كبيرة أم صغيرة. فالكتاب المقدّس يعلن لنا أنّه: "لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ" (يعقوب 2:10). كما أنّ الوحي المقدّس لا يتوقف عند هذا الحد، بل نجده يعلن لنا بأكثر جلاء بأنّ جميع الناس قد تمادوا في الشر والعصيان وأظلمت بصائرهم إذ يقول: "الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللّهِ" (رومية 3:23). كما نقرأ في السفر ذاته: "أن الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلَاحاً لَيْسَ وَلَا وَاحِدٌ" (رومية 3:12). وهكذا نجد أنّ الخطية التي اقترفها الإنسان سببت عداوة بين الله والناس، فأصبحت هناك هوة سحيقة تفصل الإنسان عن الله. وتحتّم بهذا دينونة الخاطئ بالموت: "لِأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ" (رومية 6:23). وهكذا أصبح الإنسان يعيش بعيداً عن الله، كالخراف التي ضلّت الطريق وابتعدت عن راعيها، فتاهت بعيداً في القفر المخيف المرعب.

لكنّ الله بدافع محبته لنا لم يتركنا في بُعدنا وتيهنا، بل مدّ يده المنقذة ليجتذبنا إليه وينقذنا من حافة الموت التي تترقبنا. وما هذه اليد المخلّصة المنقذة سوى يسوع المسيح عينه، الذي جاء خصيصاً لإنقاذنا من الهلاك الذي نندفع صوبه. فاتّخذ الله هيئة مثلنا وعاش بيننا واختبر كل ما اختبرناه فيما عدا الخطية التي انتصر عليها. فقدّم ذاته فداءً لأجل خلاصنا، لأنّ عدل الله تعالى يطلب القصاص لكل نفس خاطئة: "اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ" (حزقيال 18:20). وبهذا نرى كيف أنّ العدالة الإلهية التحمت بمحبته عندما أُسلم المسيح يسوع للصلب من أجل التكفير عن آثامنا.

فالمسيح يسوع هو الضحية الإلهية الذي لا عيب فيه. قدّم ذاته من أجل حصولنا نحن على العفو الإلهي، كي نمثل قدامه بلا عيب أو لوم، متبررين مجاناً بما فعله على الصليب من أجلنا.

وربما يسأل سائل: لم كل هذه الدراما المثيرة؟ ألم يكن بوسع الله أن يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء؟ ثم ألم يجد الله طريقة أخرى يكفر بها عن آثامنا دون سفك الدماء وصلب المسيح؟

إنّ الله عادل، وبمقتضى عدله أعطى الحرية لعباده في أن يختاروا فعل الخير أو الشر، الطاعة له أو عصيانه. كما أنّ إرادته ومشيئته لا تطلب هلاك أي نفس بل خلاصها. حيث نقرأ في كلمة الله المدونة في الإنجيل: "إنّ اللّهَ، يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ. لِأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللّهِ وَالنَّاسِ: الْإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لِأَجْلِ الْجَمِيعِ" (1 تيموثاوس 2:4-6).

الخلاص هو هبة مجانية من الله لكل من يؤمن بعمل المسيح الفدائي الذي أتمّه على الصليب. وهذا العمل شبيه بما حدث في القديم مع شعب الله في برية سيناء، عندما لدغتهم الحيات السامة. فأمر الله موسى برفع حية نحاسية على عمود ، وطلب من كل من لدغته حية، أن ينظر إلى الحية النحاسية المرفوعة على العمود، فينال الشفاء من الموت المؤكد. وبذات المعنى عُلّق المسيح على خشبة الصليب، فكل من يؤمن بعمله الفدائي ينال الخلاص والنجاة من دينونة الله العادلة القاضية بقصاص كل مَن يخطئ. كما ورد في الوحي المقدّس: "وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الْإِنْسَانِ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ" (الانجيل حسب البشير يوحنا 3:14).

فالله يطلب منا الايمان به، وقبول هذا الخلاص الذي أعدّه لنا في المسيح يسوع، "لاَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ" (الانجيل حسب البشير يوحنا 3:16).

الله هو المخلّص والمنقذ. هو الرحمان الرحيم الرؤوف بعباده. وهكذا لا يبقى أي مجال للإنسان في أن يفتخر على الله في شيء. مصداقاً لقول الله الذي جاء على لسان بولس الرسول: "لِأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالْإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللّهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلَا يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أفسس 2:8-9).

ثم لو أنّ الله يغفر لمن يشاء، ويعاقب من يشاء لكان ظالما، وهذا محال في طبيعته تعالى. ثم لو دبّر طريقة أخرى غير الصليب، لبقي السؤال هو هو: لماذا لم يختر طريقة أخرى غير هذه؟ فالصليب وحده هو الطريق الذي تلتحم فيه المحبة بالعدالة الالهية الحقة. وإذا كان الإنسان اليوم يعترف بأن العار لا يُغسل إلا بالدم، فكم بالحري خطايا الإنسان! وأي دم هذا يقدر على غسل آثام وأقذار بني الإنسان؟

فالإنسان هو تاج خليقة الله، الذي يحمل في كيانه نسمة الله تعالى. أولا يستحق هذا المخلوق فداء من ربه؟

إنّ الله خصّ الإنسان بعناية تامة ومحبة فائقة الوصف دفعت به أن يقدّم من أجل هذا الإنسان كفارةً لا مثيل لها، إذ قدّم ابنه الوحيد كفارة من أجل خطايانا.

ثم ضمن عملية الفداء، القيامة المجيدة. لأنّه لو بقي المسيح في القبر ولم يقُم، لكان إيماننا باطلاً والكفارة لا معنى لها. كما أشار إلى ذلك الرسول بولس بواسطة الوحي المقدّس: "وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ" (1 كورنثوس 15:14).

فقيامة المسيح في اليوم الثالث من بين الأموات عربون على قيامتنا معه، وحصولنا على غفرانه تعالى. ولقيامة المسيح يسوع من بين الأموات، شهود وإثباتات كثيرة نذكر منها:

شهادة النبوات في أسفار العهد القديم، التي تشير بوضوح إلى موت وقيامة المسيح بعد صلبه واختباره أوجاع الموت.

شهادة المسيح عن نفسه. قد تحدّث المسيح مراراً وتكراراً عن طريق الصليب الذي هو سائر باتجاهه، ثم قيامته منتصراً على سلطان الموت.

شهادة الرسل والكرازة بقيامة المسيح بعد الصلب.

شهادة مؤرخين يهود ووثنيين أمثال: يوسيفوس اليهودي، وتاسيتوس الوثني الروماني، ولوسيان اليوناني. (أشار كل هؤلاء إلى حادث صلب المسيح).

شهادة التواتر. فالكنيسة منذ نشأتها تشهد للصليب والقيامة. وقد تناقل أبناء الكنيسة المسيحية عبر الأجيال حادث الصلب، وكان مركز تعليمهم ورمز انتسابهم للمسيح المصلوب والمقام من بين الأموات ظافراً.

مجيء المسيح ثانية

نجد الوعد الإلهي بمجيء المسيح ثانية لعالمنا، فور صعوده إلى السماء، إذ أنبأ ملاكان أتباعه بعد الصعود: "إِنَّ يَسُوعَ هذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاءِ" (أعمال 1:11).

ومجيء المسيح ثانية لن يكون كما كان في مجيئه الأول. فالمجيء الأول كان قصده الخلاص وفداء البشرية. أما مجيئه ثانية فهو ليدين الأحياء والأموات، الذين رفضوه ولم يقبلوا فداءه وخلاصه الذي أعدّه لهم. هؤلاء سينالون في ذلك اليوم العذاب الأكبر.

والمجيء الثاني للمسيح له أهمية كبرى في حياة المؤمنين. فالمؤمنون الأوائل عاشوا يترقبون هذا المجيء وتطلعوا إليه بكل أشواقهم. فالمؤمن المسيحي في كل عصر يعيش حاضره على رجاء هذا المجيء، يترقبه بكل جوارحه، فيعيش حياة الترقب والانتظار على استعداد لملاقاة سيده. لذا عليه أن يحيا حياة تليق بسيده الآتي، حياة مثمرة تتماشى وإنجيل المسيح. هذا هو سر انتظار مجيء المسيح ثانية.

الإيمان المسيحي ليس حديثاً عن الماضي، بل هو حياة في الحاضر ولأجل المستقبل. فالمسيح جاء ليعطينا حياة كي نحياها ورجاء نعيشه. فالإيمان المسيحي كله رجاء للحياة العتيدة. لهذا يعيش المؤمن يقظاً، لأنّه "لَوْ عَرَفَ رَبُّ الْبَيْتِ فِي أَيِّ هَزِيعٍ يَأْتِي السَّارِقُ، لَسَهِرَ وَلَمْ يَدَعْ بَيْتَهُ يُنْقَبُ" (الانجيل حسب البشير متى 24:43).

ويحض المسيح يسوع كل مؤمن أن يعيش حياة الايمان، ولا يتوانى في الاستعداد لاستقبال سيده لأنّه يقول: "اِسْهَرُوا إِذاً لِأَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ الْبَيْتِ، أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ اللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ الدِّيكِ، أَمْ صَبَاحاً؟" (الانجيل حسب البشير مرقس 13:35). ومطلوب من كل مؤمن أن يعيش حياة الاستعداد. "فَكُونُوا أَنْتُمْ إِذاً مُسْتَعِدِّينَ، لِأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لَا تَظُنُّونَ يَأْتِي ابْنُ الْإِنْسَانِ" (الانجيل حسب البشير لوقا 12:40).

وهذا الإنتظار يعطي المؤمن المسيحي قوة الاحتمال والصبر، لأن مستقبلاً بهياً زهياً ينتظره مع سيده وربه. فالإنسان الذي لارجاء له يعيش في بؤس وتشاؤم مستمر، وسر انتصار المؤمن المسيحي على مشاكل العالم والآلام المحيطة به تكمن في سر هذا الرجاء وهذا الانتظار والترقب لمجيء المسيح يسوع. 

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع النور.
  • عدد الزيارات: 3832