أخلاقيّات الطبّ
لقد بحثنا سابقاً في موضوع أخلاقيات الاقتصاد والتكنولوجيا. وقمنا بذلك لإظهار أهميّة الربط بين جميع مواضيع الحياة المعاصرة والأخلاق. فإن امتاز عصرنا هذا بمجيء حضارة جديدة طابعها المميّز تطبيق العلوم الطبيعيّة في سائر نواحي الحياة، صار من اللازم أن نشدّد على أهمية الإنسان كفرد خلقه الله وأعطاه كرامة لم يعطها لبقيّة مخلوقاته. ومن قام بدراسة تاريخ البشريّة في القرن العشرين يلاحظ أن التقدّم العلمي الباهر الذي جرى لم يصاحبه تقدّم مماثل في طريقة معاملة الناس لبعضهم البعض. فما أكثر المظالم التي جرت في هذا القرن وما أشدّ وقعها على البشريّة! وهذا ما دفع أحد المفكّرين إلى القول بأن القرن العشرين يعدّ من أقسى القرون التي عرفتها البشريّة منذ فجر التاريخ!
وقد جدّ الإنسان منذ القديم للتغلّب على الأمراض التي تهدّد حياته وظهر الطبّ منذ القرون القديمة. ومن الواجب أن نذكر دين البشريّ’ جمعاء لليونان الأقدمين الذين وضعوا أسس علم الطبّ وكذلك لأجدادنا العرب الذين ساهموا مساهمة فعّالة في مضمار العلوم الطبيّة وكانوا حلقة الوصل بين الطب القديم والطبّ المعاصر.
وربما لا نكون مغالين إن قلنا بأنّ الطفرة الكبرى في علم الطبّ حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين بعد اكتشاف العديد من الأدوية التي تعالج الأمراض المستعصية وتضع حدّاً للأوبئة التي كانت تفتك بالملايين من الناس في العصور السابقة. مثلاً لقد اختفى مرض الجدريّ بعد أن عمّت عمليّة تلقيح الأطفال ضدّ هذا المرض الخطير في سائر أنحاء العالم. ملم يقتصر التقدّم العلمي على اكتشاف وتحضير العقاقير المفيدة والشافية بل صار بإمكان الجرّاحين المهرة بأن يزرعوا أعضاء سليمة في جسد الإنسان عوضاً عن أعضاء كان قد أتلفها المرض كزرع الكلية أو القلب.
وقد أدّى هذا التقدّم العلمي الباهر الذي جرى في مضمار العلوم الطبيّة إلى ظهور مشاكل وتحدّيات أخلاقيّة عديدة. فنحن إذ نفكّر في موضوع الطبّ الحديث وتأثيره على الحياة البشريّة لا بدّ لنا من أن نركّ. على وجوب احترام الشخصيّة البشريّة في جميع طرق المعالجات الطبيّة والبحوث التي تجري لاكتشاف أدوية جديدة. وكذلك علينا الاعتراف بأن هنالك حدوداً يجب على الإنسان ألاّ يتخطّاها وهو يقوم بتجاربه العلميّة/ الطبيّة. ليس الإنسان عبارة عن أنسجة وأوعية دم وكتل عضليّة، الخ. الإنسان هو قبل كلّ شيء كائن سامٍ خلقه الله على صورته وشبهه، كما ورد في موضوع خلق الإنسان في توراة موسى. الإنسان هو تاج الخليقة وقد أعلن الله كرامته بكل وضوح منذ فجر التاريخ. إذن، لا يجوز لأي بشري أن يعبث بحياة أقرانه بني البشر أو أن ينظر إليهم وكأنهم ليسوا أعلى مرتبة من الحيوانات.
وسنبحث الآن بكل صراحة في موضوع حساس للغاية ألا وهو موضوع الإجهاض. يعمد العديدون من معاصرينا على معالجة موضوع الانفجار السكّاني باللجوء إلى هذه الطريقة اللاأخلاقية لتحديد النسل. الملايين من الأجنّة البشرية لا ترى نور الحياة لأنّه صار بالإمكان القيام بالإجهاض بطرق سهلة نسبيّاً. لكنه لا يجوز لنا أن ننظر إلى هذا الأمر الخطير وكأنّ الجنين البشريّ قيمته كالصفر. هناك موضوع أخلاقي هام يجابهه كلّ طبيب وكلّ ممرّضة وكل قابلة قانونيّة: ما هو موقفي من الحياة البشريّة؟ وما هي قيمة الحياة؟ وهل هناك حقوق لبني البشر حتى قبل أن يولدوا؟
وفي نهاية المطاف يرتبط جوابنا على هكذا أسئلة ليس فقط بالأخلاقيات التي ندين بها بل بوجهة نظرنا الشاملة والكاملة للحياة. من وضع قيمة الحياة البشريّة، الإنسان أم الله؟ وإن كان الله قد علّمنا في وحيه المقدّس بأنّ قيمة الحياة البشريّة هي لا نهائيّة، فمن له الصلاحية بأن يصدر حكم الإعدام على بعض الأجنة البشرية وذنبها الوحيد أنّها لم تكمّل مسيرتها الطبيعيّة في بطون أمّهاتها؟
وهناك مثل آخر أورده لأظهر بشاعة استغلال اكتشافات طبية حديثة بطرق لا أخلاقية ولا شرعيّة. صار بإمكان الطبّ المعاصر أن يكتشف جنس الجنين قبل ولادته، أهو ذكر أم أنثى. وقد قرأت عن البعض الذين يلجؤون إلى هذه الطريقة الطبية لمعرفة جنس الجنين ولطلب الإجهاض فيما إذا كان الجنين أنثى! يا لهول هذا القرار ويا لكبر وفداحة الجريمة المرتكبة ضدّ بعض البنات!
وكثر الحديث في أيامنا عن أهميّة ما يسمّى بالجينات أي تلك الجزيئات الصغيرة التي توجد ضمن كلّ جسد بشري والتي يرثها عن آبائه وأجداده والتي تتحكّم بمختلف نواحي حياته. صار بالإمكان إحداث بعض التغييرات في تكوين هذه الجينات البشرية. ولست أودّ أن أظهر بمظهر المعترض على هكذا أبحاث طبية ولكنه من واجبنا أن نبحث في أخلاقيات كلّ تغيير قبل أن يتمّ هذا التغيير. وبعبارة أخرى، لا يجوز النظر إلى هكذا أمور من وجهة نظر علميّة/ طبيّة بحتة. ليس الإنسان كالحيوان لتجرى عليه اختبارات مجهولة ولا يجوز المجازفة بحياته.
هناك إذن عاقة وثيقة بين علم الطبّ والصيدلة والأخلاقيات. وفي عصر انتشرت فيه إيديولوجيات إلحاديّة وقلّت فيه قيمة الإنسان، يجدر بنا نحن الذين نعترف من قرارة قلوبنا بالله بارينا وواهب حياتنا الثمينة، يجدر بنا أن ننادي بكل جرأة بوجوب أخذ قيمة الإنسان بعين الاعتبار في جميع أمور الحياة ولاسيما في موضوع الطب المعاصر. نحمد الله ونمجّد اسمه القدوس على كل ما وهبنا إيّاه للتغلّب على الأمراض. وكذلك علينا أن نظهر كلّ الاحترام والامتنان للأطباء والممرّضين والممرضات والصيادلة والباحثين في مختبرات صناعة الأدوية والعقاقير، نشكرهم على تضحياتهم وتفانيهم في سبيل صحّة البشريّة. لكننا نذكّرهم بموضوع الأخلاقيات لكي لا ننسى معنى الحياة البشريّة وقيمتها وقدسيّتها.
- عدد الزيارات: 2889