الطريقة العلمية
يمتاز عصرنا هذا عن العصور التي سبقته بكونه عصر العلم. وما أعنيه بهذه العبارة أننا نحيا في زمان كثرت فيه تطبيقات الاكتشافات العلمية في شتى نواحي حياتنا. فمن البديهي أنه كان من المستحيل لنا قبل قرن مضى أن ننصت إلى حديث مذاع من محطة إذاعية تبعد عنا المئات بل ربما الآلاف من الكيلومترات. ولا داع لي أن أذكر أن موضوع الإذاعة هذا لم يكن وارداً في الماضي. وهذا الاختراع العجيب لم يتطور إلى حالته الحاضرة إلا في قرننا هذا. وكما ورد في حديث سابق، علينا أن نتذكر أننا نستعمل كلمة علم وعالم بمعنى يختلف عما كان مألوفاً لأكثر من ألف سنة في تاريخ الحضارة العربية. فبينما كانت هذه الكلمة تشير في الماضي إلى موضوع الدين والمختصين في شؤونه إلا أنها أضحت في أيامنا هذه، وذلك نظراً لتأثرنا بالحضارة الغربية، تعني في أكثر الأحيان المواضيع المتعلقة بالعلوم الطبيعية. ويعرف تطبيق المبادئ العلمية الطبيعية في نواحي الحياة المختلفة بالتكنولوجيا. وهكذا يمكننا تسمية عصرنا هذا بعصر التكنولوجيا.
آتي الآن إلى ذكر موضوعنا الأساسي وهو الطريقة العلمية. ما أعنيه بهذه العبارة هو الأسلوب المتّبع في الأبحاث أو البحوث العلمية. يبدأ العالم المختص في أحد حقول العلوم الطبيعية بأبحاثه ناظراً إلى المظاهر التي يجدها في العالم الخارجي. وهو يأمل بأن يتعلم من أبحاثه الجارية في حقله العلمي ليستخلص منها مبادئ علمية. ومن ثم يأخذ هذه المبادئ فيطبقها ممتحنا بدقة صحتها في مضمار الحياة العملية. وغايتي الآن هي الكلام في حقل العلم حسب المفهوم المعاصر للعلم. ويمكن تلخيص ما نسميه بالطريقة العلمية أن الباحث في هذا المضمار من المعارف البشرية يستقي معلوماته ويصل إلى مبادئه بالتطلع إلى الخارج، إلى الواقع كما يرى ويلمس. ولا بد للعالم الطبيعي من امتحان ما اكتشفه ضمن تجربة علمية دقيقة قبل أن يستفيد الناس من ثمرة اكتشافه العلمي.
وكل ما وصل إليه إنسان القرن العشرين في حقل الأدوية والمواصلات مثلاً إنما خضع لقوانين الطريقة العلمية. وليس من إنسان عاقل ينادي بتجاهل هذا الأسلوب العلمي. ولكننا لا نستطيع القول بناء على ما نتعلمه من حقل العلوم الطبيعية، أن أسلوبها أو طريقتها للوصول إلى المعرفة الصحيحة هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى المعرفة في بقية حقول المعارف البشرية. وبكل صراحة، ليست الطريقة العلمية قابلة للتطبيق في حقل الأمور الدينية. يقول الكثيرون من معاصرينا الذين تأثروا بتعاليم الفلسفات الإلحاديّة بأنهم لا يقرّون بوجود الله لأنهم لم يصلوا إلى الإيمان وهم يسيرون على الطريقة العلمية. وقد يذكر بعض القرّاء أن أحد روّاد الفضاء تشدّق منذ بضعة سنين بأنه عندما كان يجول في مركبته لم يجد أثراً لله! أي إله كان صاحبنا ينشده في جزء صغير جداً من الكون؟ وهل كان ذلك الإله – فيما لو وجده رائد الفضاء – بإله يستحقّ عبادتنا وتمجيدنا وإجلالنا فيما لو كان يُرى بالعين المجرّدة قابعاً في مكان ما من الفضاء؟
ولست أودّ من أي قارئ أو قارئة بأن يسرعا إلى الظنّ بأنني نصبت من نفسي ندّاً للعلم والتكنولوجيا! أحمد الله القدير الذي وهبنا كل هذه الوسائط العلمية التي نستفيد منها في كل يوم وفي مجالات عديدة من حياتنا المعاصرة. تنحصر غايتي في الكلام عن موضوع الطريقة العلمية في التشديد على حصرها ضمن إطار العلوم الطبيعية. الطريقة العلمية تتطلّب الجهد البشريّ الذي يتّجه من العالم/ الباحث إلى العالم الخارجي ومن ثمّ ينبئ هذا العالم الخارجي العالم/ الباحث بمعلومات توضع موضع التنفيذ لاختبار صحتها وقابليتها للتطبيق العمليّ.
لكننا ما إن نأتي إلى أمور الله حتى يجدر بنا أن نقبل بكل خشوع وإيمان طريقته تعالى اسمه. وقد امتاز أسلوب الله منذ البدء في كونه الآخذ بالمبادرة. فكما أن الله لم يستشر أحداً ما عندما خلق الكون والأرض وكل ما فيها من نبات وحيوان وإنسان، هكذا شاء الله بأن يعلمنا عن ذاته وعما يطلبه منا نحن البشر بواسطة الوحي والإلهام. لا يمكننا أن نتخلى عن هذا المبدأ الهام تحت ستار كوننا عائشين في عصر علمي لا يدين إلا بما يدعى بالطريقة العلمية للوصول إلى المعارف الصحيحة ولا يقبل إلا بما يؤكّد وجوده ضمن حقل التجارب العلميّة.
أعيد ما ذكرته سابقاً: إنني لا أنصب من نفسي عدواً للعلم. لكنني بالرغم من جميع الفوائد الجمة التي استفدت منها من جراء تطبيق العلم والتكنولوجيا لا أستطيع أن أقبل الآراء والنظريات التي تجعل من الطريقة العلمية الوسيلة الوحيدة للوصول إلى المعرفة ولاسيما في أمور الله. ولست أظن ولا للحظة واحدة بأن اللوم يقع على العلم بحد ذاته لأنه ليس من اختصاصه الكلام عن أمور الله. أين نجد إذن منبع هذا التفكير الذي يحاول بأن يخضع أمور الدين للطريقة المسماة بالعلمية؟ نجد ذلك في الفلسفة المعاصرة التي أخذت اتجاهاً لا دينياً، بل اتجاهاً إلحادياً في القرون الأربعة الماضية أي منذ ما يسمى بعصر النهضة. وقد زادت حدّة الاتجاه الإلحادي في الفلسفة بصورة خاصة منذ مطلع القرن الماضي ذلك القرن الذي زامن بدء التأثير الغربي على بلاد الشرق.
وإذ وصلنا في هذه الأيام إلى السنين الأخيرة من القرن العشرين وبعد أن رأينا وشاهدنا مغبّة النظريات والإيديولوجيات الإلحاديّة وتأثيرها على الحياة الفكريّة في شتى أنحاء العالم، يجدر بنا أن نتمسّك بأسس الإيمان القويم بالله، ذلك الإيمان الذي يعترف بخصوصية الإيمان الديني المبني على الوحي الإلهي وبكونه مختلفاً كل الاختلاف عن المعرفة التي نحصل عليها في حقول العلوم الطبيعية المختلفة. ونحن لا ننادي برجعية عقيمة ولا بوجوب التقوقع في نمط حياتية غير ملائمة لأيامنا هذه، بل نبقى حريصين على التفريق بين أساليب العلم والطريقة الصحيحة للوصول إلى معرفة الله خالقنا والمعتني بنا ومنقذنا من الشر المحيط بنا. فشرعية الطريقة العلمية تصان عندما نبقي عليها ضمن النطاق العلمي/ الطبيعي. لكننا لن نسمح لها، لمجرد كونها علمية، بأن تتخطى حدودها لتضحي الأسلوب الوحيد للوصول إلى المعرفة. نقول هذا بكل صراحة وإخلاص عندما نتكلم عن أمور الله ومعرفته وعبادته وعن الواجبات المفروضة علينا كمخلوقاته التي منحت امتيازات لم تعط لبقية المخلوقات. وكل تطاول على الدين من قبل العلم المعاصر ليس في نهاية المطاف عملاً علمياً، بل مجهوداً فلسفياً إلحادياً غايته إبعاد الإنسان المعاصر عن الله القدير.
- عدد الزيارات: 3158