مشكلة الحداثة والعصرنة
من أهم المشكلات التي تواجهنا ونحن نقترب من نهايات القرن العشرين هو موضوع الحداثة والعصرنة. فجميعنا نعلم أننا نحيا في عصر جديد لم يختبره آباؤنا وأجدادنا. هذا هو عصر التكنولوجيا أي تطبيق العلوم الطبيعية في مختلف نواحي الحياة، وحدوث الانفجار السكاني وانتقال العديدين من الناس من الريف إلى المدن وضواحيها. عاش الناس منذ القديم على نمط حياتية ثابتة بينما يختبر في عصرنا هذا كل جيل تغييراً كبيراً في أنماط الحياة. فالمشكلة التي نجابهها في مواجهة الشروط الحياتية الجديدة ندعوها بمشكلة الحداثة أو العصرنة.
وقبل كل شيء أريد أن أشرح ما لا أعنيه عندما أبحث في موضوع الحداثة والعصرنة. فأنا لا أعني أننا نستطيع العودة إلى الوراء ونحيا كما عاش أسلافنا. كانوا يسافرون براً وبحراً بطرق بطيئة نسبياً بينما نحن نسافر بسرعة عندما نستعمل السيارات أو الباصات أو القطارات. وإذا كانت المسافات شاسعة صرنا نسافر بالطائرات. لكنّ مجرد تغيير وسائل المواصلات لا يأتي بنا إلى مجابهة مشاكل مستعصية، فهي تبقى تحديات يمكن التغلب عليها بعد بذل جهد معيّن وبدون المساس بعقائدنا التي نتشبث بها.
وكذلك تتطلب منا الحياة المعاصرة استعمال الكهرباء للإنارة والتشغيل العديد من الآلات المنزلية. وهكذا عندما نستعمل الكهرباء كمصدر هام للطاقة لا نعني بأن ذلك صار مشكلة مستعصية. وبكلمة مختصرة، لا تكمن مشكلة العصرنة أو الحداثة في هكذا مواضيع. فجميعنا نتفق على هذا الأمر الهام بأن الطريقة المعيشية للإنسان في تطور مستمر منذ فجر التاريخ وأنه ليس من إنسان عاقل يودّ الرجوع إلى الوراء وإنكار فوائد المبتكرات التي جرت في عالمنا وخاصة في هذا القرن.
ماذا نعني إذن بمشكلة الحداثة والعصرنة؟ وما هي المواضيع التي برزت في أيامنا هذه والتي تتطلب منا تفكيراً سويّاً لنستطيع مجابهتها بطريقة مسؤولة؟ ليس الجواب بعسير إن حصرنا هذه المشكلة في النظرة الحياتية التي عمت العالم في هذا العصر والتي تخفي في طياتها فلسفات إلحادية منكرة لله ولكل ما أوحى به منذ فجر التاريخ.
كثيراً ما ينسب للعلم، حسب مفهومه المعاصر، آراء ليس لها علاقة بالحقل العلمي بل هي مجرد آراء فلسفية أو مواقف إيديولوجية. فصار من المألوف أن العديدين من معاصرين يبررون موقفهم الإلحادي بادعائهم
أنه علمي. وهم يقصدون بأن الإنسان الذي يتخذ موقفاً علمياً في حياته لا بد له، في نهاية المطاف، من إنكار الله وعلاقته بالإنسان. هكذا موقف لا علاقة له بالعلم، إذ أنه ليس من اختصاص العلم، كما يفهم في هذا الأيام، أن يجعل من نفسه حكماً في أمور الله القدير.
نعود إلى الكلام عن موضوع التحديث والعصرنة. تبرز حدّة المشكلة التي نجابهها اليوم عندما يحاول البعض دمج النظرة الحياتية الإلحادية المنكرة لله ولإتكالية الإنسان عليه، في موضوع التكيف مع مطاليب الحياة المعاصرة. ما أعنيه هو أننا لا نعادي الحداثة أو العصرنة فيما إذا كانت مجرد التأقلم مع هذا العصر بشرط ألا يطلب منا في نفس الوقت أن ندين بمبادئ أساسية هي في جوهرها لا دينية أو إلحادية.
مثلاً لا يخفى علينا أن التقدم الباهر الذي جرى في مضمار العلوم الطبية صار جزءاً لا يتجزأ من طراز حياتنا. نشكر الله ونحمده على جميع الإكتشافات الصيدلية وعلى فائدة العديد من العقاقير التي لم تكن معروفة حتى منذ مدة قصيرة نسبياً. ولقد تأتى من جراء الإكتشافات الطبية المعاصرة عدة أمور لم يجابهها آباؤنا أو أجدادنا. فمن البديهي أن ما لم يواجهوه لم يكن مشكلة بالنسبة إليهم ولذلك لم يتركوا لنا نتاج تفكيرهم بخصوص الموضوع الذي نجابهه نحن. يقول لنا البعض من الباحثين في موضوع الطب والعصرنة أنه لا يجوز لنا أن نستمر في الكلام عن قدسية الحياة البشرية بل علينا أن نغير مفهومنا عنها ناظرين إليها من جهة نفعيتها وكيفيتها. وما يعنون به هو أن الناس كانوا في الماضي ينظرون إلى حياة الإنسان كمخلوق له قيمة لا متناهية. الإنسان هو مخلوق فريد أعطاه الله ما لم يهبه لأي مخلوق آخر. فنظراً لكون الله قد خلق الإنسان جاعلاً إياه تاج المخلوقات وبما أنه كشف عن ذاته منذ فجر التاريخ وأعطى الإنسان وحياً تضمن طرق العبادة الصحيحة المقبولة لديه، يتأتى من هذا المنظور العقائدي أن يعمل الطب كل ما في وسعه للإبقاء على حياة الإنسان مهما كلّف ذلك من مجهود أو مال!
يأتي البعض من الذين لم يعودوا يدينون بهذه النظرة التقليدية لقيمة الحياة البشرية ويقولون بأن متطلبات العصر تحتم علينا أن نعيد النظر في ما كنا نعتقده بخصوص قيمة الإنسان. مثلاً إن قلت فائدة الإنسان لمجتمعه نظراً لمرض عضال قد ألم به، لا ينتظر من المجتمع البشري بأن يمنح هكذا إنسان كل ما يحتاجه من الوسائل الطبية للإبقاء على حياته. نواجه هذه المشكلة نظراً لتقدم العلوم الطبية في أيامنا ولكنه لا يجوز لنا أن نلوم الطب المعاصر وكأنه هو الذي يلح علينا لكي نغير موقفنا من الإنسان. فالذي يضفي قيمة لا محدودة على الشخصية البشرية هو الله خالق الإنسان. فاحترمنا لقدسية الحياة البشرية واستنكارنا لزهق الأرواح البشرية البريئة هو مدعوم من قبل معتقد ديني يعلو فوق جميع النظريات العلمية أو الفلسفية، قديمة كانت أو حديثة أو معاصرة! وما أن نعتنق إيديولوجية مادية إلحادية حتى تتغير وجهة نظرنا بخصوص الإنسان. إذ ليس في مضمون أو في محتويات المعتقد الإلحادي أي مفهوم للإنسان يجعل منه ذا قيمة لانهائية. يضحي الإنسان في منظور الإيديولوجية الإلحادية مجرد كائن ذي قيمة محدودة. وعندما لا يستطيع الإنسان أن "ينفع" مجتمعه تضحي حياته "عبثاً" عليه ومن الجائز التخلص منه فيما إذا رغب في ذلك "المجتمع".
ليست مشكلة الحداثة أو العصرنة إذن في وجوب أو عدم وجوب التكيف مع نمط الحياة المتأثرة بالإكتشافات العلمية. تكمن حدّة المشكلة في الأيديولوجية اللادينية التي تصاحب كثيراً الحياة المعاصرة. فكمؤمنين بالله نقول نعم للحداثة والعصرنة إذا ما فهمتا على أساس سليم. ولكننا نقول كلا، لأية عصرنة تسلبنا في نهاية المطاف من أعز ما لدينا من قيم روحية وأخلاقية نبعت في أصلها من وحي الله القدير. ونحن إن قبلنا الكثير من الآراء الرائجة في عصرنا هذا والتي تنادي بالتحديث والعصرنة بدون أن نفحصها على ضوء الكلمة الإلهية نكون قد سرنا على منزلق يؤدي بنا إلى الدمار. وكما قال السيد المسيح: لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟
- عدد الزيارات: 5529