عالم من عالمنا؟
من خلال المؤلفات التي تنهمر على عالمنا من كل حدب وصوب وفي جميع اللغات المستعملة من قبل الملايين من الناس يلاحظ القارئ نوعا من الرؤيا الناقصة. فالصورة التي ترتسم في هذه المؤلفات المعاصرة لعالم الإنسان هي صورة ناقصة وغير كاملة وغير واقعية. هذا لا يعني أن الإنسان ذاته يهمل. الإنسان بمشاكله الفردية والاجتماعية والعالمية صار يدرس بكل جد ونشاط. ما أكثر المؤلفات التي برزت إلى الوجود والتي تعالج العديد من المواضيع الحياتية! ولكن النقص لا يزال موجودا في أكثر هذه المؤلفات. وما هو هذا النقص؟ انه ذلك السكوت الهائل عن علاقة عالمنا هذا بالله الخالق. نادرا ما يرد اسم الله في البحوث الجدية لمشاكل العالم وكثيراً ما ينكرون وجود أية علاقة بين العالم والله الخالق.
هناك وجهتا نظر بخصوص هذا الموضوع : عالمنا هذا هو اما عالم الله وللإنسان أو هوعالم الإنسان الوحيد!
عندما نقول أن عالمنا هذا هو عالم الله لا نكون جاعلين من الإنسان صفرا. ونحن لم نقل أن عالمنا هذا هو عالم الله وتوقفنا عند ذلك الحد. ما قلناه هو : عالمنا هو عالم الله وللإنسان. هذا يعني أننا اعترفنا بأن هذا العالم هو لله الخالق تمجد اسمه ولكننا أردفنا قائلين توبأنه للإنسان أي أن الله قد أعد هذا العالم من أجل الإنسان.
فالاعتراف بعلاقة الله بعالمنا (أي العالم الذي نحيا فيه نحن ابناء البشرية). لا يعني بأننا نلغي الإنسان أو نقيده بقيود استعبادية. على العكس لا يعيش الإنسان كإنسان أن لم يعتقد بالله وبسلطانه على كل شيء وبعلاقته بكل ما يجرى على هذه الأرض.
ان الذي يثور على الله واتكالية العالم على الله انما يحرم نفسه من أعظم حقيقة في الوجود. ومحاولة بناء عالم بدون الله وكأن العالم هو عالم الإنسان، أن هذه المحاولة الهرقلية نهايتها الفشل الذريع. لماذا نتفوه بهذه الكلمات؟ ألعلنا نود التعامي عن الحقيقة التي يراها الإنسان، إنسان القسم الأخير من القرن العشرين؟ كلا! لسنا بمتشدقين بما لا ندرى ولا نريد أن نتعامى عن الحقيقة مهما كانت هذه صريحة وجارحة! ولكننا ننادى بفشل كل فلسفة وكل وجهة نظر دهرية لأنها جزئية وتبسيطية ولا ترى الكل! أن رؤياها للعالم وللحقيقة هي رؤيا جزئية ولذلك فإنها أن اكتفت بتلك الرؤيا لا تستطيع تكوين فكرة صائبة عن العالم وعن البشرية ومشاكلها وحلولها.
الله وحده يرى الكل ويعرف الكل ويود الخير للكل لأنه تعالى هو بارى الكل والمشرف على الكل. الله لا يريد تعاسة الإنسان، الله لا يريد شقاء الإنسان، الله لا يريد موت الإنسان. حاشا، إذ لو أراد الله تلك الأمور التي أتينا على ذكرها لما خلق الكون ولما أبدع الإنسان.
وان أردنا معرفة مقدار تقدير الله للإنسان ليس علينا الا التأمل في الإنسان. انه لمخلوق بديع ورائع وضعه الله على سطح الكرة الأرضية كنائب عنه تعالى اسمه وأعطاه عطايا ومواهب لم تمنح لأية مخلوقات أخرى. وجميع الأمور العظيمة والباهرة التي نجدها في عالمنا هذا من الآثار القديمة التي تركها لنا بناؤو الحضارات القديمة إلى مآثر إنسان القرن العشرين كتحطيم الذرة وغزو الفضاء الخارجي والنـزول على القمر، كل هذه تشير إلى عظمة الإنسان المخلوق وإلى تفوق عظمة الخالق تعالى اسمه.
ولكننا لا نكون متكلمين بالحقيقة بكليتها أن اكتفينا بالكلام عن مآثر الإنسان القديم والحديث. إذ علينا الاقرار ليس فقط بعظمة الإنسان بل بشقأوته أيضاً. الإنسان عظيم وشقي أيضاً. فعظمة الإنسان تعود إلى أنه أعظم مخلوقات الله وشقاء الإنسان يعود إلى رغبة الإنسان الجامحة ومنذ فجر التاريخ في العيش بدون الله أي في عالم الإنسان لا في عالم الله وللإنسان!
وهذا التحرر غير المشروع من الله هو رأس شقاوة الإنسان وسائر الأمور المحزنة التي تعم عالمنا منذ القديم انما تنبع من هذا الخلل الجذرى الكامن في شخصية الإنسان.
والمفكرون المعاصرون الذين يودون بناء عالم للإنسان بدون الله قد لا يكونون عارفين الله الذي أنكروه أو نسوه أو تناسوه. انهم قد تصوروا بأن الله متى أعترف به ومتى توج كسيد العالم والبشرية يجعل من الإنسان لا شيء! ولكن هذه الصورة انما هي صورة صنمية وثنية عن الله. الله ليس بعدو الإنسان! حاشا. الله هو بجانب الإنسان. الله هو مع الإنسان بشرط أن يعترف الإنسان بمركز الله وبمكانته العظيمة وكذلك بشرط أن يحافظ الإنسان على مركزه أي أن يعترف بمحدوديته. وان كان الإنسان قد عاش فسادا وطغى وتجبر وتعدى على أقرانه بني البشر واستعبدهم وجعل حياتهم مرة، فهل نقترب من حل مشاكل الإنسان الجذرية بلوم الله تعالى؟ أهذا منطق سليم؟
ويقول البعض : لماذا سمح الله للإنسان بأن يقوم بهذه الأمور المحزنة؟ أن كان الله بالحقيقة سيد الكون ورب العالم فلماذا نرى كل هذه المساوىء تقض مضجع البشرية؟
الجواب على هكذا أسئلة هو أن الله لا يعامل الإنسان كآلة صماء. الإنسان مخلوق عجيب وفريد ويتمتع بمسؤوليات جمة والله منحه الحرية في التصرف لأنه بدون هذا الامتياز لا يكون الإنسان إنسانا بل جمادا!
ومن المهم جدا أن نرى أن الله لم يترك عالمنا على شأنه بل قام بواسطة السيد المسيح بعمل إنقاذى حاسم ولصالح البشرية جمعاء. وهو يقوم الآن وسط التاريخ (بما في ذلك تاريخنا المعاصر). بتطبيق عمله الخلاصي هذا بواسطة نشر كلمة الإنجيل التحريرية وبركة روحه القدوس.
عالمنا هذا عالم من هو ؟ انه عالم الله وللإنسان الذي أحبه الله إلى هكذا درجة حتى أنه أرسل مسيحه إلى وسط العالم لإنقاذه من الشر والهلاك. هذا هو أعظم نبأ سمعته دنيانا.
- عدد الزيارات: 1966