سر التألم -9
من مظاهر الحياة المعاصرة كثرة الآلام والعذابات التي تنهمر على الناس بالرغم من كثرة الاختراعات البشرية وبالرغم من الفتوحات الباهرة التي توصل اليها الإنسان في الفضاء الخارجي كالنـزول على القمر. وهذا الذي دفعنا إلى تخصيص عدة تأملات لموضوع سر الالم. ندعوه سرا لأنه هناك عدة أمور لا نستطيع أن نتفهمها عن الآلام والعذابات التي تحيق بنا أو التي تنقض علينا شخصيا. لكننا لا نقوم بهذه الدراسة من وجهة نظر فلسفية لا دينية. على العكس نقوم بهذه الدراسات من وجهة نظر معينة وهي منبعثة من تعاليم الوحي الإلهي.
فمهما صعب هذا الموضوع ومهما اكفهرت أجواء حياتنا الفردية والاجتماعية، فاننا نؤمن كل الإيمان ونعتقد من صميم قلوبنا بأن الله على كل شيء قدير وأنه صالح وعادل مهما حدث وصار! على هذا الاساس المتين والقوى بنينا دراساتنا بكل اتضاع معترفين بأننا من جبلة بشرية ترابية. نحن بشر، اننا مخلوقات محدودة، اننا أناس خاضعون لقوى الشر وفينا جميعا ميل دائم وقوى للابتعاد عن الله وسبله المستقيمة.
وهذه محاولة لتلخيص ما أتينا على ذكره في دراساتنا لموضوع سر الألم والتألم :
1. لا يتألم الإنسان على هذه الأرض بالنسبة إلى الشرور المعينة التي يرتكبها، إذ أنه لو تألم نسبيا لهذه الشرور لما بقي حيا لمدة يوم واحد!
2. يتألم الإنسان في كثير من الاحيان لا بسبب شرور قد ارتكبها بل لاسباب مجهولة بالنسبة اليه.
3. يتدخل الشيطان في معترك الحياة البشرية وهو المشتكي على الإنسان ويجلب عليه شرورا عديدة. وقد ذكرنا سيرة أيوب الصديق لدعم هذا المبدأ.
4. جميع الآلام والمآسي التي تنهال على الناس أفرادا وجماعات لا تجرى بدون علم الله بل على العكس. كل شيء في دنيانا هذه يسير حسب علم الله السابق ويخضع لمشيئته المقدسة. مهما صار وحدث في عالمنا فان ذلك يجرى والله في السماء قادر على كل شيء وبعبارة أخرى حتى في أحلك الساعات وأدقها لا نستطيع أن نقول مطلقا بأن زمام الأمور قد فلت من الله القدير أي من يد الله!
5. الآلام التي تأتي على حياة المؤمن انما هي بمثابة مدرسة حياتية للنموفي الإيمان.
وهكذا نلاحظ مما أو ردناه بأننا لا نقدر أن نساعد الإنسان الذي ترك إيمانه بالله الحي وصار فريسة للصنمية المعاصرة. هذا لا يعني اننا ننعزل عنه في برجنا العاجي انما نقول بأن فهم معنى الآلام وحل لغز أو سر التألم لا يتم بدون الرجوع التام والكلي إلى الإيمان بالله القادر على كل شيء والمسيطر ليس فقط على التاريخ في العصور الماضية والسحيقة بل على تاريخ اليوم وعلى أيام المستقبل المجهولة. الله هو الله وليس هناك من عزاء أو من شفاء لنا بدون الاقرار بعظمته وبجلاله وبسلطانه على كل شيء. ليس فقط الآلام والعذابات بل الحياة بأسرها من ألفها إلى يائها ليست الا لغزا ومعضلة لكل من ترك إيمانه بالله وبوحيه المقدس. فالحل الذي ننشده هو الحل المنبعث من صميم الوحي الإلهي ونحن نبحث لا كمبتدعين بل كتلاميذ لمعلمين وأساتذة وكتاب مؤمنين بحثوا في هذا الموضوع منذ القديم.
ان المؤمن الذي اختبر الآلام والعذابات العديدة في هذه الحياة لا ينظر اليها كمعضلات أو كألغاز مخيفة بل ينظر اليها كفرص ذهبية، آتية اليه من الله تعالى. فرص ذهبية؟! نعم، الآلام هي فرص يمنحنا اياها الله لكي نقترب منه ولنتخذ نوعا من الزهد الداخلي تجاه جميع نواحي الحياة.
أليس هذا هو الفارق بين المؤمن المتألم والمتألم غير المؤمن أو المتألم الذي ينسى إيمانه حالما تنقض عليه آلام الحياة؟ يكون الألم متساويا – من الناحية الكمية – في حياة شخصين معينين : الواحد يؤمن بالله وبقوته اللامتناهية وبصلاحه وبعدله، والآخر يظن بأن الحياة بأسرها تحت رحمة الاقدار العمياء العاتية! يقول المؤمن المتألم ضمن نفسه : أن الله العليم بكل شيء شاء فسمح بان يحدث لي هذا الأمر المحزن. اني لن أثور على ربي وخالقي بل سأقبل كل شيء وأسأل الله بأن يعطيني المعونة والنعمة لكي أتغلب على مصاعبي وأنتصر عليها وأجعل منها مدرسة للنموفي الإيمان والتقوى والحياة. أما غير المؤمن فإنه ينظر إلى آلامه وعذاباته ولا يرى فيها لا معنى ولا مغزى، فتشتد ثورته على الدنيا ويعيش حياة القلق المستمر. وما أهم النظر إلى الآلام والعذابات من وجهة نظر ايجابية! ولكن ما أصعب اتخإذ هكذا موقف! فنحن نميل بصورة طبيعية إلى التهرب من الآلام. حتى رجال الله العظماء مالوا إلى التهرب ولم يرغبوا في بادىء الأمر مجابهة المتاعب مجابهة واقعية. مثلاً عندما كثرت نوائب الحياة فان النبي داود نظم هذه القصيدة :
" 1اِصْغَ يا اللهُ إلى صَلاَتِي وَلاَ تَتَغَاضَ عَنْ تَضَرُّعِي. 2اسْتَمِعْ لِي وَاسْتَجِبْ لِي. أَتَحَيَّرُ فِي كُرْبَتِي وَأَضْطَرِبُ 3مِنْ صَوْتِ الْعدو مِنْ قِبَلِ ظُلْمِ الشِّرِّيرِ. لأَنَّهُمْ يُحِيلُونَ عَلَيَّ إِثْماً وَبِغَضَبٍ يَضْطَهِدُونَنِي. 4يَمْخَضُ قَلْبِي فِي دَاخِلِي وَأَهوالُ الْمَوْتِ سَقَطَتْ عَلَيَّ 5خَوْفٌ وَرَعْدَةٌ أَتَيا عَلَيَّ وَغَشِيَنِي رُعْبٌ. 6فَقُلْتُ : [لَيْتَ لِي جَنَاحاً كَالْحَمَامَةِ فَأَطِيرَ وَأَسْتَرِيحَ! " (مزمور 55)..
هكذا كان موقف النبي المضطهد " ليت لي جناحا كالحمامة فأطير وأستريح! ألسنا نحن أيضاً مثل داود؟ ألا نود التهرب من صعوبات الحياة؟ لكن الآلام والعذابات لا تذوب ولا تختفي أن تهربنا منها. علينا إذن مجابهة الآلام عالمين بأنها لم تنقض علينا بمعزل عن المشيئة الإلهية. أليست هي مدرسة للإيمان وللنموفي الإيمان؟ أليست فرصا يجب اقتناصها وتحويلها إلى وسائط للنموفي الحياة الروحية؟
كيف تغلب النبي داود على الهموم والمصاعب والمشاكل التي كانت قد اجتاحت سماء حياته وجعلته يرنوإلى الهرب منها والتشبه بالحمامة؟ نظر إلى عدالة الله العاملة في هذه الدنيا وآمن من قرارة قلبه بأن اليوم آت عندما سيظهر فيه حقه كظهور نور الشمس. وإذ ذاك ناشد النبي سائر المؤمنين المتألمين والمعذبين في سائر العصور والاصقاع بهذه الكلمات الخالدة :
" 22أَلْقِ عَلَى الرَّبِّ هَمَّكَ فهو يَعُولُكَ. لاَ يَدَعُ الصِّدِّيقَ يَتَزَعْزَعُ إلى الأَبَدِ " !
- عدد الزيارات: 2085