سر التألم -2
نبدأ الآن بوضع الاساس العقائدى الذي سنبني عليه بحثنا في سر التألم قائلين : أن نقطة انطلاقنا هي في كون الله صالحا وقادرا على كل شيء. ينظر المتألم إلى الحياة ويبدأ بطرح أسئلة عديدة. لماذا أتعذب أنا وغيرى لا يتعذبون؟ لماذا يسمح الله لهذه الكارثة بأن تنصب على وهو القادر على كل شيء؟ هل هناك عدل في العالم وها أن النوائب تنهمر على من كل حدب وصوب؟ ومع تعدد الأسئلة بالنسبة للذين يطرحونها وبالنسبة لو ضع المتألم وحالة إيمانه أو عدم إيمانه، الا أنها جميعا يمكن أن تبوب تحت عنواني أو موضوعين : 1. صلاح الله، و2. قدرة الله اللامحدودة.
ان طرح الأسئلة هو أمر طبيعي لان الإنسان هو مخلوق عاقل ولانه يود الوصول إلى حل معقول لسائر المعضلات الحياتية ولاسيما تلك التي تمس صميم حياته مثل الآلام والعذابات التي تصيبه. المهم في طرح هكذا أسئلة هو أن لا نتمادى فيها لئلا تقودنا أسئلتنا إلى الشك بالله وبصلاحه. نحن نبدأ دوما من نقطة انطلاق ثابتة وغير قابلة للتغيير ألا وهي أن الله صالح وعادل بالرغم من الظروف المعاكسة التي تحيق بنا ونحن نسبح في بحر الآلام والعذابات. وهكذا عندما نبدأ بالتساؤل عن سبب هذه الكارثة أو تلك، وعندما نحاول الوصول إلى حل معقول لها فإنه لا يجدر بنا مطلقا بأن ننتظر من الله أن يبرهن لنا عدله أو صلاحه. أن الله عادل وصالح في كل حين وفي كل مكان وفي شتى الظروف. علينا أن ننتظر من الله لا برهان عدله أو صلاحه، بل إنقاذنا من شكنا في عدله وصلاحه – أن كانت هذه الشكوك قد ابتدأت تعزوسماء حياتنا.
من المنتظر، بل من البديهي أن تكون هناك معضلات ومشاكل لا نستطيع أن نتفهمها في هذه الحياة. فالحياة أكثر تعقيدا مما نظن، ونحن شخصيا أو فرديا لسنا كل شيء في عالمنا هذا. هناك الملايين من الناس والكثيرون منهم يتعذبون ويتألمون ربما أكثر بكثير منا. ولكن مهما صار وحدث علينا بألا نشك في صلاح الله وعدله. الله صالح وعادل مهما حدث لي ومهما كثرت مصاعب حياتي ومهما اشتدت آلامي وعذاباتي.
الله صالح وعادل والله قادر على كل شيء. ولكن أن كان الله على كل شيء قدير، فلماذا لا ينقذني من هذه الورطة التي وقعت فيها؟ لماذا لا يخفف من آلامي المبرحة؟ هذه أسئلة تنبعث من قلب كل متألم ومتألمة – أن كانا مؤمنين بالله الحي القادر على كل شيء. وهذه الأسئلة هي مشروعة لان عقلنا يود فهم أو تفهم سائر العقائد ورؤية اتصالها مع العقائد الأخرى وارتباطها بالحياة التي نحياها على الأرض. لابأس إذن أن سألنا هكذا أسئلة بشرط ألا نسمح لها بأن تبعدنا عن شاطىء الإيمان الصحيح بالله القادر على كل شيء. فكما أننا ألمحنا سابقا إلى ضرورة التشبت بالإيمان القوى بصلاح الله وعدله هكذا يتوجب علينا الآن التشبث بإيماننا بقوة الله اللامحدودة وبقدرته اللانهائية. الله على كل شيء قدير – مهما حدث لي ومهما كثرت نوائبي ومهما اكفهرت سماء حياتي – الله قادر على كل شيء.
ولكن كيف نقول : أن الله على كل شيء قدير وهو تعالى يسمح للآلام بأن تنصب على الناس، وهو يسمح للأشرار أفرادا وجماعات بأن يهضموا حقوق الضعفاء ويضطهدونهم؟ كيف يمكننا تسوية هكذا معتقد بالأمر الواقع الذي هو أمام أعيننا في كل يوم؟
قبل كل شيء علينا أن نلاحظ أن كلامنا هذا يتعلق بهذه الأرض وبالناس الذين يعيشون عليها. إذ أنه من البديهي أن قوة الله اللامحدودة المسيطرة على الكون بأسره ترى بكل وضوح في النظام الرائع والبديع الذي يهيمن في كل مكان – أن كان ذلك في النجوم الهائلة الحجم أو في الذرات التي لا ترى بالعين المجردة. إذن مشكلتنا ليست كونية بل مشكلة أرضية مقتصرة على الحياة البشرية. وما أن نرى هذا بوضوح حتى نجد أنفسنا أمام أمر هام جدا وهو موضوع الطبيعة البشرية أو الشخصية الإنسانية المتمتعة بالمقدرة على الاختيار : الاختيار الذي قد يقود الإنسان في كثير من الاحيان إلى عمل الشر وإلى الاضرار بقريبه الإنسان وجلب الآلام والعذابات على حياته. وبما أن الله لا يعامل الإنسان كآلة صماء ولا كحيوان أبكم، فمن البديهي أن الكثير من الأمور المزعجة والمؤلمة التي تأتي على الإنسان هي ناتجة عن أعمال الإنسان التي يسمح الله بها نظرا لكون الإنسان مخلوقا ذوعقل وارادة.
فالمهم إذن ونحن قد شرعنا في بحث موضوع سر التألم والعذابات وكيف أن هذا السر لا يحل الا إذا أخذنا بعين الاعتبار صلاح الله وعدله وقوته اللامحدودة، من المهم جدا أن نغذى هكذا إيمان بمطالعة أسفار الوحي الإلهي التي تعالج هذا الموضوع. وهكذا يضحي إيماننا مبنيا لا على رأي البشر أو فلسفاتهم بل على كلمة الله.
عاش في أيام ما قبل المسيح نبي في فلسطين كان اسمه حبقوق ومما قاله رجل الله عن موضوع الألم ما يلى : الوحي الذي رآه النبي حبقوق " 2حَتَّى مَتَى يا رَبُّ أَدْعُووَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟ 3لِمَ تُرِينِي إِثْماً وَتُبْصِرُ جو راً وَقُدَّامِي اغْتِصَابٌ وَظُلْمٌ وَيَحْدُثُ خِصَامٌ وَتَرْفَعُ الْمُخَاصَمَةُ نَفْسَهَا؟ 4لِذَلِكَ جَمَدَتِ الشَّرِيعَةُ وَلاَ يَخْرُجُ الْحُكْمُ بَتَّةً لأَنَّ الشِّرِّيرَ يُحِيطُ بِالصِّدِّيقِ فَلِذَلِكَ يَخْرُجُ الْحُكْمُ مُعَوَّجاً. 5«اُنْظُرُوا بَيْنَ الأُمَمِ وَأَبْصِرُوا وَتَحَيَّرُوا حَيْرَةً. لأَنِّي عَامِلٌ عَمَلاً فِي أيامكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ بِهِ أن أُخْبِرَ بِهِ. 6فَهَئَنَذَا مُقِيمٌ الْكِلْدَانِيِّينَ الأُمَّةَ الْمُرَّةَ الْقَاحِمَةَ السَّالِكَةَ فِي رِحَابِ الأرض لِتَمْلِكَ مَسَاكِنَ لَيْسَتْ لَهَا. 7هِيَ هَائِلَةٌ وَمَخُوفَةٌ. مِنْ قِبَلِ نَفْسِهَا يَخْرُجُ حُكْمُهَا وَجَلاَلُهَا. 8وَخَيْلُهَا أَسْرَعُ مِنَ النُّمُورِ وَأَحَدُّ مِنْ ذِئَابِ الْمَسَاءِ وَفُرْسَانُهَا يَنْتَشِرُونَ وَيَأْتُونَ مِنْ بَعِيدٍ وَيَطِيرُونَ كَـ/لنَّسْرِ الْمُسْرِعِ إلى الأَكْلِ. 9يَأْتُونَ كُلُّهُمْ لِلظُّلْمِ. مَنْظَرُ وُجُوهِهِمْ إلى قُدَّامٍ وَيَجْمَعُونَ سَبْيا كَـ/لرَّمْلِ. 10وَهِيَ تَسْخَرُ مِنَ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءُ ضِحْكَةٌ لَهَا. وَتَضْحَكُ عَلَى كُلِّ حِصْنٍ وَتُكَوِّمُ التُّرَابَ وَتَأْخُذُهُ. 11ثُمَّ تَتَعَدَّى رُوحُهَا فَتَعْبُرُ وَتَأْثَمُ. هَذِهِ قُوَّتُهَا إِلَهُهَا». 12أَلَسْتَ أَنْتَ مُنْذُ الأَزَلِ يا رَبُّ إلهي قُدُّوسِي؟ لاَ نَمُوتُ. يا رَبُّ لِلْحُكْمِ جَعَلْتَهَا وَيا صَخْرُ لِلتَّأْدِيبِ أَسَّسْتَهَا. 13عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أن تَنْظُرَا الشَّرَّ وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إلى الجو رِ فَلِمَ تَنْظُرُ إلى النَّاهِبِينَ وَتَصْمُتُ حِينَ يَبْلَعُ الشِّرِّيرُ مَنْ هو أَبَرُّ مِنْهُ؟ "
لكن النبي الامين لم يفقد إيمانه بالله ولم يطلب جو اب الحكمة البشرية الفارغة بل استطرد قائلاً " 1عَلَى مَرْصَدِي أَقِفُ وَعَلَى الْحِصْنِ أَنْتَصِبُ وَأُرَاقِبُ لأَرَى ماذا يَقُولُ لِي وَماذا أُجِيبُ عَنْ شَكْوَايَ. " .
وفي النهاية وصل حبقوق إلى ذروة الإيمان بالله عندما شهد قائلاً " 17فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَاماً. يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَأودِ 18فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلَهِ خَلاَصِي. 19اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَـ/لأَيَائِلِ وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي "
- عدد الزيارات: 2231