الحق الإلهي والآراء البشرية المتقلبة
لازلنا نحاول أن نلقي نورا على المظاهر المتعددة للحضارة العالمية المعاصرة أو بالاحري للحياة الفكرية المعاصرة التي صارت شبه مقبولة في سائر أنحاء العالم. ونحن نقوم بهذه الابحاث من وجهة نظر معينة ألا وهي الوحي الإلهي الذي أعطي لنا نحن بني البشر والذي هو مدون الآن على صفحات الكتاب المقدس. وسنبحث الآن في مفهوم الحضارة المعاصرة للحق وكيف يعأرض هذا المفهوم بصورة تامة المفهوم الكتابي للحق.
وهذه الحضارة العالمية قد استسلمت استسلاما تاما للدنيوية فيما يختص بالحياة الفكرية. مفهومها للحق هو أن العقل البشرى هو مكتشف الحق وأنه هو الحكم النهائي بالنسبة للأمور التي تساير الحق أو التي تغاير الحق. أما المفهوم الكتابي للحق فهو أن الحق ليس بأمر يكتشف من قبل الإنسان ضمن عقله أو بواسطة أبحاثه. مصدر الحق هو الوحي الإلهي الذي يهبه ايانا الله خالق السماء والأرض وكل ما يرى وما لا يرى والذي يعطي لكل شيء معناه وغايته في الوجود. وهذا يقودنا إلى القول بأن المفهوم الكتابي للحق انما يعطينا حكما منـزها عن الخطأ لقياس جميع النظريات والآراء والافكار والمبادىء ولإعلان اتفاقها مع الحق أو اختلافها عنه. الحق إذن ذوأساس فوق طبيعي. الحق هو موضوعي يمكننا الحصول عليه بواسطة الإيمان بالله وبوحيه المقدس.
والآن وقد عرفنا المفهوم الكتابي للحق أي أنه من مصدر إلهي وأننا نحصل عليه بالوحي وأن هذا الوحي هو وحي مدون في الكتاب، لابد لنا من رؤية الهوة السحيقة التي تفصل هذا المفهوم عن الرأي الذي نجده في صلب الحياة الفكرية المعاصرة أو الايديولوجية المعاصرة التي جعلت الحق أمرا أرضيا بحتا ليست له أية علاقة بأمور ما فوق الطبيعة. وتأتى عن هذا المفهوم الدنيوى للحق أن هذا الأخير يصبح أمرا نسبيا أي أنه ليس هناك من حق موضوعي ثابت على مر العصور والاجيال. يضحي الحق – حسب ايديولوجية العالم المعاصر – عبارة عما تفكر به أكثرية معينة من الناس وفي بقعة معينة من العالم وفي عصر معين! وبعبارة أخرى، ليس هناك حقاً يبقى دوما مماثلا لذاته، وليست هناك مبادىء دائمة مبنية على الحق بل تتقلب المبادىء كتقلبات الجو أوكالتغيير الذي يطرأ على الازياء والموضات من سنة إلى أخرى ومن فصل إلى آخر!
وإذا ما ابتلعنا هكذا آراء معاصرة عن ماهية الحق أو كيفية الوصول اليه فاننا نكون قد تنازلنا نهائيا عن مفهوم الحق الذي كان معروفا لدى جميع الذين يؤمنون بوحي إلهي وبحقائق ثابتة غير متقلبة. وإذ ذاك، يتوجب علينا التوقف نهائيا عن استعمال عبارات كالحق أو الحقيقة، ويجدر بنا آنئذ التعويض عنها بعبارات أكثر ملائمة للوضع كوصف الاشياء بأنه مرغوب فيها أو غير مرغوب فيها وليس هذا بالأمر النظرى إذ أنه هناك الكثيرون من المفكرين ومن المتفلسفين في أيامنا هذه والذين لا يتورعون مطلقا عن القول بأنه قد حان الوقت للكف عن وصف الاشياء بأنها جيدة أو رديئة أو بكونها مطابقة للحق أو مخالفة للحق. يجعل هؤلاء الناس رأي الافراد والجماعات المقياس الوحيد للحكم على الاشياء فيما إذا كانت ملائمة أو غير ملائمة
ويجدر بنا التأمل مليا في مستقبل هكذا آراء ونظريات وفي مدى تأثيرها على عالمنا. انها بالحقيقة ستقود عالمنا إلى الفوضى والاضمحلال. فالكون بأسره مبني على سيادة الحق على الفوضى والله تعالى هو اله نظام بديع لا اله التشويش. فإذا تجاهلنا هذه الاسس والمبادىء الأولية المكتوبة في صلب عالمنا وكوننا، فاننا نكون فعليا قد أعلنا حربا جنونية على الخالق تمجد اسمه. عالمنا هذا الذي يصبح يوميا أصغر وأصغر، هذا العالم الذي تتكاثر فيه البشرية بصورة لم تعرف في الماضي، انه بحاجة ماسة إلى الرجوع إلى الاسس والمبادىء التي تعترف كل الاعتراف بوجود الحق المستقل عن كل رأي بشرى. وعلى كل إنسان الاعتراف بوجود حق إلهي المصدر وأن هذا الحق هو المقياس الوحيد الذي يجب أن تقاس بواسطته أقوال وأعمال الافراد والجماعات والدول.
وإذ كنا نتعجب كثيراً في هذه الأيام عن تجاهل الحق والعدل في الحياة الدولية مثلاً فان ذلك ليس بالأمر العجيب فالناس قد وقعوا فريسة للفلسفة المعاصرة أو الايديولوجية المعاصرة التي تؤله القوة والتي تتجاهل الحق وسائر الأمور التي تنبع من الحق. فان الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها الناس كأفراد وجماعات هي في لبها حقوق وامتيازات ممنوحة للناس من قبل الخالق الذي شاء فجعل الإنسان تاج أو رأس الخليقة. والنبي موسى الذي اختاره الله ليعطينا الوحي المدون في أسفار التوراة، لم يعطنا رأيه الخاص عندما كتب بأن الله خلق الإنسان على صورته وشبهه. وكذلك لم يكن النبي داود مغاليا عندما تغنى في المزمور الثامن قائلاً عن الإنسان " 5وَتَنْقُصَهُ قليلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ وَبِمَجْدٍ وَبَهَاءٍ تُكَلِّلُهُ " على العكس، كان المرنم الشهير يعطينا وحيا إلهيا عن ماهية الإنسان وغاية الله في خلق الإنسان. فان قبلنا هذه التعاليم السامية والتي نستقيها من الوحي الإلهي ألا نكون مفهوما سليما ساميا لحقوق الإنسان وواجباته، لامتيازاته ومسؤولياته؟ وفوق كل شيء ألا يكون رائدنا دوما وفي كل شيء معرفة الموقف الذي يجب أن نقفه تجاه كل موضوع وازاء كل مشكلة من وجهة نظر الحق الإلهي الذي لا يتغير والذي يعطي لكل إنسان حقه بدون محاباة أو تمييز؟
قد تكون أزمة عالمنا اليوم معقدة للغاية وقد تكون أبعد بكثير من أن تحل في أيامنا هذه، ولكننا لا نكون مبالغين مطلقا أن أرجعناها إلى سبب رئيسي ألا وهو تجاهل الحق الإلهي وتتويج آراء الناس المتقلبة. هذا لا يعني انه علينا تجاهل وجود عوامل مادية متعددة لأزمة العالم أو الادعاء بأنها غير هامة، ولكن لب أو قلب مشكلتنا اليوم هو أن العالم لم يعد ينظر إلى الاسس والمبادىء التي تعلوفوق كل بشرى والتي تنبع من الحق الإلهي. وإذا تمادينا في تجاهل الحق وسائر الأمور التي تنبع منه والتي تنظم حياة الافراد والمجتمعات فان مشاكلنا سوف تتكاثر وتزداد تعقيدا.
والتفاؤل بالمستقبل غير ممكن مادام العالم يسير على آراء الناس الواهية. حاجتنا الماسة اليوم وفي المستقبل هي استرجاع الإيمان القوى وغير المتزعزع بوجود الحق الذي هو إلهي المصدر والذي نصل إلى معرفته بواسطة الوحي.
- عدد الزيارات: 3259