Skip to main content

تأملات في الحياة

العزلة المعاصرة

هل هنالك أمر من العزلة؟ الإنسان المنعزل الوحيد الذي يشعر بنوع غريب من الوحدة هو إنسان متألم ومعذب، هذا هو إنسان القرن العشرين! ولكن كيف نقول بأن الإنسان يعيش حياة العزلة والعالم مكتظ اليوم بالناس؟ طبعا أن دنيانا مكتظة بالناس ولكن ما أكثر الناس الذين يعيشون حياة العزلة والانفراد والوحدة!

أصغ معي إلى وصف دقيق للعزلة المعاصرة كما ورد في احدى المطبوعات الأجنبية : لقد مات إنسان ولم يدر أحد باسمه،

لقد مات وكأنه ورقة شجرة خضراء في الربيع ولكنها لم تلبث بأن اصفرت فسقطت في الخريف! الإنسان كالورقة، مات ولم يأبه به أحد!

لقد كان يصرخ ويستغيث بالمارة، كان يصرخ وينادى ولكن لم يصغ اليه أحد!

رآه أحدهم وهو يهوى إلى الأرض.. ولكن من يبالي بورقة تسقط على الأرض؟

لقد سقطت الورقة ولم يذرف أحد دمعة من أجلها، ما قيمتها تلك الورقة؟!

وكتب احدهم واصفا العزلة المعاصرة التي يشكومنها إنسان اليوم قائلاً : أن أصعب شيء في الشقاء والحزن والمرض واليأس هو أن يحتمل الإنسان هذه الأمور بمفرده وهو في حالة العزلة التامة!

ولكن لم العزلة؟ لماذا العزلة والانفراد، لماذا هذا الشعور القاتل في حياتنا نحن بني البشر؟ الجو اب هو أن الإنسان قد اختار هذا الطريق طريق العزلة منذ البدء. كان الله قد طلب من الإنسان وهو تاج المخلوقات بأن يسير على سبيله المستقيم ولكن الإنسان تنحى عن ذلك الصراط وسعى بأن يحيا حياة منكمشة ومغلقة ضمن الكبرياء والكذب والبهتان. هذا هو سبب العزلة الأولي في عالمنا.

ولكنه يجدر بنا حالا أن نقول أن العزلة المعاصرة ليست ناتجة دوما عن اختيار الفرد الشخصي لهكذا حياة. هناك عدة عوامل خارجية تكون قد وضعت الإنسان في حالة الانعزال أو العزلة مثل المرض أو حادثة اصطدام أو كارثة. وكذلك يجدر بنا أن نقول عن تعليل العزلة وكأنها دوما عبارة عن حالة نفسية عاطفية علينا أن نقول أن هكذا تعليل هو تبسيطي للغاية ولا يمكننا قبوله.

وكذلك لا يجوز لنا القول بأن حالة العزلة هي دائما عبارة عن قصاص من قبل الله الذي قد استحقه الإنسان نظرا لشر معين قام به أو ارتكبه.

وعلينا الملاحظة بهذا الصدد أن الفلسفة الوجودية المعاصرة قد عالجت هذا الموضوع بشكل خاص. حسب هذه الفلسفة التي تغلغلت إلى أفكار العديدين من الناس ولاسيما بواسطة المؤلفات القصصية والفلسفية، العزلة ليست الا ذلك العبء الشديد للوجود ذلك العبء الذي لا يمكن تحمله! والفلسفة الوجودية لا يمكن أن تخلص الإنسان ولا تعرف كيف تنقذ الإنسان المعاصر من هذا الفراغ المطلق الذي يحيق به. ومع أن العزلة ليست بشر معاصر – إذ أن الأجيال السالفة كانت قد اختبرتها – الا انها تحيق بنا اليوم كطوق شديد لأن الإنسان المعاصر قد خسر اليقين والإيمان الذي كان يتمتع به الآباء والأجداد. لقد فقد الإنسان المعاصر الذي انتهل من مياه الوجودية، لقد فقد الإيمان بإمكانية بناء حياة يجد فيها شركة اجتماعية أو مجتمعية سليمة. ليس هناك إذن سوى العزلة!

نعم ما أشد وطأة العزلة المعاصرة! فمع أن التقنية المعاصرة قد قربت الناس من بعضهم البعض الا انها قد بقيت عاجزة عن ايجاد اللقاء الأخوى بين الناس. حتى ضمن الجموع المعاصرة يبقى الإنسان شاعرا بالعزلة لأن الناس قد يحتكون سطحيا مع بعضهم البعض ولكنهم يبقون غرباء وأجانب فلا يعيشون حياة الشركة الإنسانية الصحيحة. وكأن عالمنا صار تحت رحمة قوى لا شخصية تعصف به وتدفعه نحو اللا معنى والعدم والفناء. ولم يمتنع البعض عن وصف حالة الإنسان اليوم وكأنها العزلة الكونية.

كفانا وصف الإنسان في حالة الشقاء هذه فنحن لسنا بتشاؤميين ولا بزارعي بزور القنوط. ليست العزلة غاية الحياة البشرية فطبيعة الإنسان تميل دوما نحو الحياة الاجتماعية والشركة البشرية الحيوية. هذا هو اختيار الله لحياة الإنسان وهو تعالى لا يرغب مطلقا بأن يكون طابع حياة الإنسان الانعزالية أو الفردية المطلقة. كل إنسان – حسب القصد الإلهي – هو عضوحي في مجتمع بشرى حي. حياة الإنسان لا تنموولا تترعرع كما يجب الا ضمن مجتمع إنساني سليم وفي هكذا مجتمع لا مكان للعزلة.

ليست رغبة الله للإنسان الحياة في العزلة، ولكن الإنسان وخاصة إنسان اليوم، يحيا ضمن عزلة لا تطاق لماذا؟ كما ألمحنا سابقا، لقد ثار الإنسان على الله وأعلن عصيانه على النظام الإلهي للوجود. وهكذا فسدت علاقة الإنسان مع باريه بسبب ثورته وهذه بدورها قد أدت إلى هدم صرح العلاقة السليمة بين الإنسان وقرينه الإنسان. بإعلانه استقلاله التام والمطلق عن الله تعالى صار الإنسان أسير العزلة وأضحى يعيش حياة الهجرة الروحية والغربة الروحية.

لكن الله لا يرضى بدمار عمل يديه. لا يقبل الله برفض الإنسان لقانون الحياة. قال الإنسان لله : لا، لن أسير في طريقك ولن أحيا في نطاق ارادتك. ولكن الله العليم كان قد أعد برنامجا خلاصيا إنقاذيا جبارا. وقد وضعه موضع التنفيذ عندما أرسل كلمته إلى دنيانا هذه أي عندما جاء المسيح منذ نحو ألفي سنة. جاء كلمة الله أي مسيح الله إلى أرضنا هذه وعاش حياة كاملة وخالية من محبة الذات والكبرياء وكرس أيامه لخدمة الله والناس. وأثناء حياته القصيرة التي أمضاها على أرضنا هذه وضمن البلاد المقدسة كان رفيقا للضعفاء والمساكين والمرضى والحزانى والأرامل والمضطهدين وقد أظهر له المجد تضامنه وتكاتفه التام معهم وأخرجهم من ظلام وبؤس عزلتهم الشديدة. وفوق كل شيء ذهب المسيح إلى أكمة الجمجمة بالقرب من القدس وهناك مات على الصليب الخشبي مكفرا عن خطايا العالم.

هذا المسيح الذي قام من الأموات هو المخلص من سائر الشرور ولاسيما من شر العزلة. انه يقدم اليك اليوم حياة الانتصار والشركة الحقيقية ضمن أخوية الإيمان فلماذا لا تضع مقاليد حياتك بين يديه؟ آمن ولا تعد إلى حياة العزلة القاسية!

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع كلمة الحياة.

 

  • عدد الزيارات: 2093