موت شاول
رأينا داود يهرب من أمام الملك شاول، وعندما وقع شاول في يده سامحه وغفر له مرتين ولم يقتله. ولكن شاول ظل يضطهد داود الصالح. ولم يتوقف عن أن يتابعه ويطارده ليقتله، إلى أن عرف أن الأعداء من حوله قد اجتمعوا ليحاربوه، فقد اجتمع عليه ملوك خمس مدن. وعندما رأى الجيش الجبار الذي جاء ضده، خاف خوفاً عظيماً، وأراد أن يسأل الله. وتقول التوراة إن الله لم يجاوبه لا في حلم ولا بالأوريم الذي كان الكاهن يحفظه في صُدرته، ومنه يعرف إرادة الله، ولم يجاوبه بواسطة الأنبياء. وكان النبي صموئيل قد مات. ففكر شاول أن يذهب إ لى امرأة صاحبة جان.
وكان شاول قد سبق ونفى من البلاد كل أصحاب الجان الذين يقولون كلاماً على لسان الجان، لأن شريعة موسى كانت تنهى عن ذلك. ولكن شاول في ضيقة نفسه قرر أن يذهب إلى واحدة منهم ليطلب منها أن تُصعد له صموئيل النبي، وأعطاها الأمان.
وبدأت المرأة تقول له إنها ترى آلهة يصعدون من الأرض. وعندما سألها أن تصف له ما تراه، قالت: »شيخ صاعد مغطى بجبة«. لم يكن شاول يرى شيئاً وكان ممكن أن يكون هذا الصاعد مجرد خيال في عقل المرأة وحدها، ولكن شاول المريض بعقله، الذي فارقه روح الله وملأه روح الشرير، صدَّق أن المرأة أصعدت له صموئيل النبي. ومع أن كل الرجال الكبار في العمر كانوا يلبسون الجبة، إلا أن شاول صدق أن الصاعد بالجبة هذه المرة هو صموئيل.
وماذا قال الشيخ الصاعد وهو مغطى بجبة؟ لم يقل شيئاً واحداً جديداً فقد كرر الكلام القديم أن الرب فارق شاول، وأنه أعطى المملكة لداود. وقالت المرأة صاحبة الجان للملك إن الشيخ الصاعد بجبته يقول: غداً أنت وبنوك تكونون معي.
إن كان هذا الكلام صحيحاً فهل يذهب شاول الذي فارقه الرب إلى نفس المكان الذي ذهب إليه صموئيل نبي الرب؟ بالطبع لا! لقد كان الشيطان يتكلم في صاحبة الجان، والشياطين يفعلون كل ما يقدرون عليه ليُضلوا ولو أمكن المختارين أيضاً. وكل الذين يلجأون إلى الجان وقارئي البخت يجرون وراء الباطل ويضرون أنفسهم ولا ينتفعون شيئاً. هذه شيطانية وأعمال شياطين. إن الذين يحبون الله يسمعون إرشاده ونصائحه بغير حاجة إلى وسطاء، فإن سرّ الرب لخائفيه، وعهده لتعليمهم (مزمور 25:14).
كان الملك شاول خائفاً من الرب، وكان كلام العرافة سبباً في رعبه أكثر وأكثر، فذهب إلى الحرب وهو مرتعب. كانت الحرب شديدة عليه، ورأى جيشه يسقط أمام أعدائه، وأولاده الثلاثة يموتون أمامه ومنهم يوناثان. وأخيراً أصابه سهم جرحه جرحاً شديداً. ولم يشأ شاول أن يقع في يد الأعداء لئلا يهزأوا به، فطلب من حامل سلاحه وحارسه الخاص أن يقتله بسيفه. ولكن حامل السلاح خاف، ولم يشأ أن يفعل ذلك بسيده، فسقط الملك شاول على سيفه هو، وانتحر ومات. وفي اليوم التالي جاء الأعداء يكشفون جثث القتلى فوجدوا الملك شاول، فقطعوا رأسه وسمروا جسده على سور المدينة، ووضعوا سلاحه في بيت صنمهم، وكأنهم يقولون إن إلههم أقوى من إله شاول، وإن قوتهم أعظم من قوته. ما أرهب آخرة شاول! بدأ بالعصيان وانتهى بالهلاك، والبركة عادة على رأس المطيع وحده.
داود يحزن لموت شاول:
كان شاول قد أمسك سيفه وسقط عليه ليموت، لكن يظهر أنّه لم يمت بسرعة. ورأى شاباً من عماليق فطلب منه أن يكمل موته فقتله العماليقي. ورأى العماليقي أن هذه فرصة طيبة ليأخذ هدية من داود عندما ينقل إليه خبر موت عدوه الملك شاول. فأخذ الإكليل الذي كان على رأس الملك شاول، وهوعصابة ضيقة من الذهب حول خوذته، وأخذ السوار الذي كان على ذراعه، وهو من الذهب لتكون علامة على صدق الرسالة وأن شاول قد مات.
وكان العماليقي يظن أن داود سيفرح بخبر موت شاول. لكن داود حزن للغاية ومزق ثيابه وندب وبكى، وصام هو والرجال الذين معه حزناً على شاول وعلى يوناثان ابنه، وحزناً على الشعب الذي مات. والحقيقة أن موت شاول يستحق الندب والبكاء، لأنه كان بعيداً عن الله. ومات بعد أن انتحر، وبعد أن جعل شعب الله يخطئ. إن الخطية تقتل الخاطئ والشر يميت الشرير.
لكن تأمل معي داود المحب المسامح. صحيح أن شاول عدوه، لكن الكراهية كانت من جانب واحد، لأن داود لم يكن عدواً لشاول. هل لك أعداء؟ هل العداوة بسبب عيب فيك؟ إن كان العيب فيك أنت فأصلح العيب. إن لم يكن العيب فيك فاملأ قلبك بالمحبة من نحو الآخرين.
وكتب داود مزمور مرثاة (في 2صموئيل 1:19-27) يرثي شاول ويوناثان ويُظهر حزنه على موتهما، بدأه بالقول: »كيف سقط الجبابرة؟«. وفي هذا النشيد نرى شدة حزن داود على موت شاول. لم يشمت داود في موت شاول، لكنه حزن عليه. ليتنا نتعلم من مثال داود كيف نبكي مع الباكين، وكيف نحب أعداءنا، وكيف نطلب خير مواطنينا عمرنا كله.
داود يسأل الرب:
لما بلغت داود أخبار موت شاول، كان داود آنذاك ساكناً في صقلغ. وكانت صقلغ قد احترقت بالنار، فوقف داود حائراً: هل يبنيها مرة ثانية بعد أن احترقت، ويسكن فيها مع رجاله؟ أو هل يلجأ إلى بلاده ليملك عليها كما وعده الرب، وكما مسحه صموئيل النبي منذ سنوات طويلة، وهو في بيت أبيه في بيت لحم؟ ولكن داود سأل نفسه: ماذا يحدث لو رجعت إلى بلادي؟ كان رجوعه سيسبَّب حرباً أهلية، تنقسم فيها بلاده إلى قسمين: قسم يقف إلى جانبه، وقسم آخر إلى جانب عائلة شاول. هل يكون داود سبب خراب ونزاع؟ وفي حيرة توجه إلى الله: وما أصلح أن يتوجه الحائر إلى الله، لأنه مكتوب: »الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللّهِ« (رومية 8:14) ولا ندري كيف سأل داود الله عن فكره؟ هل صلى فكلمه الله بحلم، أو هل استشار داود المؤمنين من رجاله؟ نحن لا نعرف، لكننا نعرف أن الله نصح داود أن يرجع إلى بلاده، وأن يذهب إلى حبرون.
ليتنا نسأل الله قبل أن نخطو أية خطوة هامة في حياتنا. ليتنا نتكلم مع الله ونطلب إرشاده بدل أن نعتمد على فكرنا البشري فقط ونتكل على حكمتنا وحدها. إننا محتاجون أن نصغي لفكر الله دائماً.
داود يملك في حبرون:
توجه داود إلى حبرون كما أوصاه الله. وحبرون مدينة سكن فيها إبراهيم خليل الله. وهناك اشترى إبراهيم حقل المكفيلة ليكون قبراً لسارة وله. وفيها تغرب ابنه اسحق بعض الوقت. وبعد أن أخذ بنو إسرائيل أرض كنعان بقيادة يشوع صارت حبرون من نصيب الكهنة، وجعلوها مدينة ملجأ. ومدينة حبرون موجودة ليومنا هذا، واسمها »الخليل« لأنها مدينة إبراهيم خليل الله. لقد اختار الله حبرون أعظم مدينة في أرض يهوذا، السبط الذي جاء منه داود، ولذلك فإن أهل حبرون أعظم من يحبون داود ويميلون إليه، خصوصاً وأن الملك شاول كان من سبط آخر هو سبط بنيامين. ثم أن مدينة حبرون كانت في موقع ممتاز يحميها من هجوم الوثنيين، الأمر الذي يعطي داود فرصة لتدبير الأمر، أول عهده في الحكم، بعيداً عن الحرب والنزاع. وكان خير حبرون كثيراً لأن بالقرب منها خمسة وعشرين ينبوعاً من الماء وعشر آبار كبيرة، مع كروم وغابات أشجار زيتون. وسمع داود نصيحة الله له، وأخذ رجاله وعائلاتهم وسكنوا في مدن حبرون. وجاء رجال يهوذا ومسحوا داود ملكاً على سبط يهوذا. في تلك المناسبة كتب داود مزموره المئة والواحد. وظل داود يملك سبع سنوات ونصف.
حرب أهلية:
كان أبنير قائد جيش شاول قد نجا في الحرب، ولم يبق من أبناء شاول حياً إلا واحد اسمه إيشبوشث. وأبنير هو ابن عم الملك شاول، فيكون أيضاً عم إيشبوشث. يظهر أن أبنير نظم رجال بني إسرائيل، وبقي يحفظ النظام في المملكة، ويدافع عنها خمس سنين ونصف. ثم بعد ذلك أخذ إيشبوشث ابن شاول وملَّكه على بقية أسباط إسرائيل. فملك إيشبوشث سنتين وكان عمره حين ملك أربعين سنة.
وأراد أبنير قائد الجيش أن يضم يهوذا إلى مملكته ويطرد داود، فأخذ جيشاً كبيراً من رجاله وسار نحو بركة جبعون. وخرج يوآب قائد جيش داود وهو في الوقت نفسه ابن أخته صروية، ومعه عدد كبير من رجال جيش داود. وخرج اثنا عشر رجلاً من الجيشين، وأمسك كل واحد صاحبه في مصارعة، وضرب صاحبه بالسيف في جنبه فقتله. وسقط الرجال الأربعة والعشرون. وكانت الحرب شديدة في ذلك اليوم. واتفق الطرفان أن يتوقَّفا عن الحرب، ورجع كل جيش إلى بلاده وانتهت الحرب الأهلية التي بدأها أبنير وأنهاها أبنير أيضاً.
داود يملك على كل الأسباط:
ومنذ تلك الحرب كان داود يتقوى، وكان بيت شاول يضعف، إلى أن اختلف أبنير مع إيشبوشث فانقلب ضده. وأرسل أبنير رسلاً إلى داود يطلب أن يدخل في عهد معه ليساعده ليكون ملكاً على كل أسباط بني إسرائيل، فوافق داود على ذلك. وذهب أبنير إلى شيوخ بني إسرائيل يقنعهم أن يقبلوا داود ملكاً عليهم. وأبنير أفضل من يقدر على الإقناع، لأنه كان صديق بيت شاول، وها هو يغيِّر فكره ويتبع داود. ولا بد أن هناك سبباً يجعل أبنير يغير فكره. وقال أبنير لبني إسرائيل: الرب كلم داود قائلاً: »إني بيد داود عبدي أخلص شعبي بني إسرائيل من يد أعدائهم« فاقتنع بنو إسرائيل جميعاً وكل رجال سبط بنيامين، أهل الملك شاول، وقابلوا داود وطلبوا منه أن يملك عليهم جميعاً، وقطعوا معه عهداً، وجعلوه ملكاً على كل بني إسرائيل. لقد كان الرب مع داود فانتصر. كان الرب معه، فكان صموئيل النبي ناصحه، ولا زال المؤمنون يرنمون تراتيله. وكان الرب معه فانتصر على الآلام والتجارب، وكان الرب معه فأحب أعداءه وعاملهم معاملة حسنة، وها هو يملّكه على كل بني إسرائيل. والله يحقق وعده دوماً.
وقال جميع أسباط إسرائيل لداود: »هُوَذَا عَظْمُكَ وَلَحْمُكَ نَحْنُ. وَمُنْذُ أَمْسِ وَمَا قَبْلَهُ حِينَ كَانَ شَاوُلُ مَلِكاً كُنْتَ أَنْتَ تُخْرِجُ وَتُدْخِلُ إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ قَالَ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ: أَنْتَ تَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْتَ تَكُونُ رَئِيساً لِشَعْبِي إِسْرَائِيلَ« (1أخبار11:1، 2). وكان عمر داود عندما ملك على كل بني إسرائيل ثلاثين سنة، لكنها كانت سنوات عامرة بالاختبار، غنية بالتجارب، لأن داود رأى فيها المتاعب كما رأى البركات، وعرف البشر، وعرف الله. وأقام بنو إسرائيل حفل تتويج لداود استمر ثلاثة أيام، أكلوا فيها وشربوا، وكان الشعب القريب من حبرون يُحضرون الطعام على الحمير والجمال والبغال والبقر حتى يأكل الرجال الذين جاءوا يملّكون داود عليهم. وكان فعلاً حفلاً عظيماً.
عاصمة المملكة:
ملك داود على بني إسرائيل لأن الله قد سبق ووعده بذلك. وأراد أن يختار عاصمةً لمملكته. كانت عاصمة مملكة شاول مدينة جبعة، وسط أهله من سبط بنيامين. وملك داود في حبرون سبع سنوات ونصف، وحبرون مكان مقدس لأن إبراهيم سكن فيه. وعندما جاء كل الشعب إلى داود ليملك عليهم اختار مدينة أورشليم عاصمة لمملكته. وهي أفضل مكان جغرافياً لموقع العاصمة، لأنها في موقع متوسط يسهُل منه حكم الدولة كلها، ولأنها حصينة وسط الجبال يصعب على الأعداء أن يهجموا عليها، ثم لأنها وسط مكان جميل، وداود يحب الطبيعة لأنه مرتل موهوب.
كانت مدينة أورشليم في ذلك الوقت في يد اليبوسيين، فطلب داود منهم أن يعطوها له، فرفضوا. ولذلك حصل عليها داود بالحرب. يقول المؤرخ يوسيفوس: إن يوآب حفر خندقاً تحت الأرض ودخل منه إلى قلب الحصن، وفتح أبواب أورشليم في وجه كل جيش داود. وهكذا أخذ داود المدينة الحصينة وجعلها عاصمة لمملكته.
لنا دروس:
صار داود ملكاً على بني إسرائيل جميعاً. ولنا من هذا بعض التعاليم:
أول درس نتعلمه أن الله جهز داود بالألم. لقد صرف داود نحو أربع عشرة سنة في عذاب وتشريد، ولكن كل سنة من هذه السنين كانت مدرسة تعلّم خلالها داود الشيء الكثير. لم يكن من السهل أن يجيء صبيّ من وراء الغنم ليملك. فكان لا بد لداود الراعي الصغير أن يتدرّب حتى يدرك ويفهم وينضُج. وكان الألم مدرسة الله، علّم فيها داود الشيء الكثير.
إن كنت تتألم، فاعلم أن الله يجهزك لمكان أفضل. لقد سبق أن تألم يوسف وهو في السجن بعد أن بيع عبداً في مصر، وكانت سنوات تشريد داود الأربع عشرة هي السنوات التي تعلّم خلالها كيف يصير ملكاً، يلقي اعتماده تماماً على الله، ويحكم علىشعبه بالحكمة.
وهناك درس آخر: إن النجاح ليس سريعاً. لقد وعد الله أن يجعل داود ملكاً، ولكن وقتاً طويلاً مضى قبل أن يتحقق الوعد، لأن لكل شيء تحت السماء وقتاً. لا تستعجل، بل انتظر الرب. هل صلَّيت من أجل شيء ولم تحصل عليه؟ لا تفشل، لأن الكتاب المقدس يقول لنا: »في وقته أُسرع به« هل تريد أن تغيِّر حالةً تُتعبك؟ سيجيء الوقت. سلم نفسك لله. انتظر الرب واصبر له، فسوف يحقق الله في حياتك معجزته.
وهناك درس ثالث: لقد جهّز الله لكل واحد من أولاده عملاً خاصاً. يقول لنا رسول المسيحية بولس: »لِأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ - عمل المسيح - مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللّهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا« (أفسس 2:10). ربما جهز الله لك عملاً كقائد، أو ربما جهز لك عملاً بسيطاً. ربما أعطاك وزنة واحدة، أو ربما أعطاك عشر وزنات. لكن عندك وزنة، ولك عمل وعليك مسئولية. لقد كان العمل الذي اختاره الله لداود أن يصير ملكاً، لكن قد يكون عملك أنت بسيطاً. صلِّ واطلب أن يكشف لك الله ما يريدك أن تفعله لخدمته، ثم افعله.
- عدد الزيارات: 3491