Skip to main content

إبراهيم يحزن

في تأملاتنا في حياة إبراهيم نجيء إلى موقف حزين في حياته، عندما ماتت زوجته. وهل يمكن أن تكون حياة الإِنسان منا سلسلة من أفراح دون أن يعتريها حزن؟ مستحيل! بكى إبراهيم عندما ماتت سارة زوجته. لم نسمع أن إبراهيم بكى عندما ترك أهله وأصحابه وبيت أبيه وأرضه. ولم نسمع أنه بكى عندما سمع أن الأعداء أخذوا لوطاً أسيراً. ولم نسمع أنه بكى عندما أخذ ابنه المحبوب إسحق، وسار به إلى الجبل ليقدمه ذبيحة كما أمره الرب. ولكننا نراه يبكي عندما ماتت سارة زوجته. لا شك أنه كان بكاءً حقيقياً من قلب مجروح. كان من الطبيعي أن يبكي على سارة وعمرها مئة وسبعاً وعشرين سنة، وهي المرأة الوحيدة التي سجلت التوراة عمرها. ومهما عاش الإِنسان فلا بد أن يموت، فأي إنسان يحيا ولا يرى الموت؟ وُضع للناس أن يموتوا، فإن الموت هو طريق الأرض كلها. وبعد انتهاء أيام حياة سارة ماتت. على أن هناك نقاطاً مضيئة في موت سارة.

نقاط مضيئة:

أولها أن موت سارة كان موت سيدة مؤمنة. حين نقرأ سيرة حياتها نرى أن إيمانها لم يكن قوياً مثل إيمان إبراهيم، لكنها عاشت حياة الإِيمان بمواعيد اللّه. تركت أهلها وسارت مع زوجها في طاعة الإِله الذي عبده زوجها. يقول عنها كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "بِالْإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضاً أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْلٍ، وَبَعْدَ وَقْتِ السِّنِّ وَلَدَتْ، إِذْ حَسِبَتِ الَّذِي وَعَدَ صَادِقاً" (عبرانيين 11:11). ويقول عنها الرسول بطرس: "كَانَتْ سَارَةُ تُطِيعُ إِبْرَاهِيمَ دَاعِيَةً إِيَّاهُ "سَيِّدَهَا". ثم يقول للنسوة المؤمنات: "الَّتِي صِرْتُنَّ أَوْلَادَهَا، صَانِعَاتٍ خَيْراً" (1بطرس 3:6).

وهناك نقطة أخرى مضيئة في موت سارة، فقد كان موتها موت شريكة حياة محبوبة، عاشت مع إبراهيم ستين سنة في كنعان. لم نقرأ عن حادثة خصام بينها وبين إبراهيم، غير خصامها في مسألة هاجر. لقد عاشت حياة زوجية سعيدة طويلة، كانت فيها الشريكة المحبة لزوجها، شاركته أحزانه وأفراحه، وانتصاراته وقربه من اللّه، ووقفت إلى جواره تسنده بكل قلبها وطاقتها. نعم، كان موت سارة موت شريكة حياة محبوبة.

وهناك نقطة ثالثة مضيئة في موت سارة، أن موتها كان موت أم فاضلة. صحيح أن موتها كان خسارة كبيرة على إسحق. ومع أن عمره عند موتها كان سبعاً وثلاثين سنة، إلا أنه كان يحيا معها في البيت يتمتع بأمومتها الفاضلة، ويشعر بمحبتها وتدبيرها وحكمتها. يصدق في سارة ما قاله إمام الحكماء سليمان: "اِمْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ مَنْ يَجِدُهَا؟ لِأَنَّ ثَمَنَهَا يَفُوقُ اللَّآلِئَ" (أمثال 31:10).

كان موت سارة خسارة على أسرتها، فقد نقص فرد عظيم في تلك الأسرة. نقصت سارة الشخصية الرئيسية في الأسرة. عندما جاء الضيوف إلى إبراهيم أسرع إلى سارة لتجهيز الطعام لهم. وخسرت الأسرة سارة المدبرة الفاضلة، وأتى إبراهيم ليندب سارة ويبكي عليها. يظهر من رواية التوراة أن إبراهيم كان في بلد أخرى عندما ماتت سارة، وسمع عن موتها، فأسرع إلى "قرية أربع" التي ماتت فيها ليندبها ويبكي عليها. هناك فرق بين إتمام إرادة اللّه عندما يأخذ إبراهيم ولده وحيده ويذبحه، وبين احتمال الآلام عندما تنفذ إرادة اللّه، فتموت سارة.

عندما نتمم إرادة اللّه نتحمل بصبر، لكن عندما ينتهي كل شيء تسيل منا الدموع. ليس عجيباً أن يبكي إبراهيم. لقد كانت سارة شريكة حياته أكثر من مئة سنة. كانت الوحيدة التي تستطيع أن تعزيه عندما يذكر أهله في أور الكلدانيين، لأنها الوحيدة الباقية معه منذ ترك أهله وأرضه. كانت المرأة الشجاعة التي سافرت معه، واحتملت التعب، وتركت الجميع لتكون إلى جواره. فكيف لا يبكي عليها. وعندما جلس إبراهيم عند جسدها ذكر كل تاريخه معها، وجهادها معه، وسالت الدموع من عينيه.

إبراهيم يشتري قبراً:

وقام إبراهيم من أمام جسد زوجته يريد شراء مدفن لها. واتجه إلى بني حِث - حيث يسكن - يطلب منهم مكاناً ليدفن فيه زوجته. وقال لهم: "أَنَا غَرِيبٌ وَنَزِيلٌ عِنْدَكُمْ. أَعْطُونِي مُلْكَ قَبْرٍ مَعَكُمْ لِأَدْفِنَ مَيِّتِي مِنْ أَمَامِي". فَأَجَابَ بَنُو حِثَّ إِبْرَاهِيمَ: "اِسْمَعْنَا يَا سَيِّدِي، أَنْتَ رَئِيسٌ مِنَ اللّهِ بَيْنَنَا. فِي أَفْضَلِ قُبُورِنَا ادْفِنْ مَيِّتَكَ. لَا يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنَّا قَبْرَهُ عَنْكَ حَتَّى لَا تَدْفِنَ مَيِّتَكَ". فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ وَسَجَدَ لِشَعْبِ الْأَرْضِ لِبَنِي حِثَّ، وَقَالَ: "إِنْ كَانَ فِي نُفُوسِكُمْ أَنْ أَدْفِنَ مَيِّتِي مِنْ أَمَامِي فَاسْمَعُونِي، وَالْتَمِسُوا لِي مِنْ عِفْرُونَ بْنِ صُوحَرَ أَنْ يُعْطِيَنِي مَغَارَةَ الْمَكْفِيلَةِ الَّتِي لَهُ، الَّتِي فِي طَرَفِ حَقْلِهِ. بِثَمَنٍ كَامِلٍ يُعْطِينِي إِيَّاهَا فِي وَسَطِكُمْ مُلْكَ قَبْرٍ" (تكوين 23:1 - 9).

وفي حديث إبراهيم مع بني حث، وفي حديثهم معه، نجد الحقائق التالية:

كان إبراهيم يشعر أنه غريب ونزيل. صحيحٌ أن هذه الأرض الجديدة هي أرضه وأرض أولاده من بعده حسب وعد الله فه، لكنه يعتبر نفسه غريباً، فذهب يقول لبني حث إنه غريب ونزيل. والغريب لا يدفن ميته في أرض غربته، لكنه يدفنه في المكان الذي جاء منه، حيث بلده الأصلية. لكن إبراهيم لم يرجع ليدفن سارة في أرض ما بين النهرين، بل طلب أن يدفنها عند بني حث، لأنه واثق أنه ونسله سيكونون في أرض كنعان. ما دام قد دفن زوجته في هذا المكان، فإن هذا معناه أن هذا المكان مكانه. وقد أخذ إبراهيم هذا الشعور من مواعيد اللّه، الذي قال له إنه سيعطيه الأرض له ولنسله.

كان إبراهيم لطيفاً للغاية مع بني حث. قام وسجد لشعب الأرض تحيةً. وكان هذا علامة الاحترام والتحية والشكر، وفي نفس الوقت نسمع بني حث يقولون له: "اسمعنا يا سيدي، أنت رئيس من اللّه بيننا. في أفضل قبورنا ادفن ميتك. لا يمنع أحد منا قبره عنك حتى لا تدفن ميتك". ومن هذا نتعلم اللطف في معاملاتنا. قد يكون بعض الناس خشني الطباع، لكن إبراهيم يعطينا درساً في اللطف والمعاملة الرقيقة.

ثم نلاحظ في كلام إبراهيم أنه كان أميناً. إنه يعلم أن الأرض كلها له، لأن اللّه أعطاها له، لكنه يطلب أن يدفع ثمن القبر الذي اشتراه. ودفع إبراهيم أربعمائة شاقل فضة. وعندما طلب صاحب الأرض أن يعطيه الأرض مجاناً رفض إبراهيم. قال صاحب الأرض له: "الحقل وهبتك إياه، والمغارة التي فيه لك وهبتها". لكن إبراهيم طلب أن يدفع الثمن. لم يغتصب إبراهيم أرض أحد، ولم يأخذها بحجة أن اللّه وعده بها. إن اللّه يَعِد، لكن علينا أن نفكر تفكيراً سليماً في مسئولياتنا من نحو احتياجات الآخرين. وما أبعد الفرق بين ما عمل إبراهيم وما يعمله اليوم نسل إبراهيم الجسدي!

وهكذا اشترى إبراهيم مغارة المكفيلة. ومعنى اسمها "المغارة المزدوجة". فقد كانت مغارتين إحداهما في داخل الأخرى، واشترى إبراهيم الحقل الذي أمام المغارتين. ودُفن إبراهيم بعد ذلك في مغارة المكفيلة، كما دُفن فيها إسحق ابنه ويعقوب وليئة. ولا زال القبر موجوداً إلى اليوم في قرية الخليل التي هي حبرون القديمة.

من قصة موت سارة نرى أننا يجب أن نكون مستعدين للموت في كل لحظة. أنت غريب في الأرض، ومسافر إلى النهاية. هل نهايتك سعيدة؟ إن صلتك بالمسيح هنا تحدد نهايتك، فقد قال السيد المسيح: "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الْأَبَدِ" (يوحنا 11:25 و26). فإذا وضعت ثقتك فيه وسلمته حياتك، وفتحت له قلبك، يضمن لك الحياة الأبدية، التي تبدأ هنا والآن، ولا تنتهي أبداً، لأنك تصبح شريكاً لحياة اللّه التي يمنحها المسيح لك، فلم يرسل اللّه المسيح إلى العالم ليدين العالم بل ليُخْلُص به العالم، واللّه لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يُقبِل الجميع إلى التوبة، وكل من يُقبِل إليه لا يخرجه خارجاً. أدعوك أن تجيء إلى المسيح معترفاً بخطاياك، وأن تسلم له حياتك وقلبك، لتجد فيه الحياة الأبدية التي لا تنتهي أبداً. 

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع النور.
  • عدد الزيارات: 5411