Skip to main content

يونان: الهارب من وجه الله

"1وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إلى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ: 2"قُمِ اذهَبْ إلى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي" 3فَقَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ إلى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ فَنـزلَ إلى يَافَا وَوَجَدَ سَفِينَةً ذَاهِبَةً إلى تَرْشِيشَ فَدَفَعَ أُجْرَتَهَا وَنـزلَ فِيهَا لِيَذْهَبَ مَعَهُمْ إلى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ. 4فَأَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحاً شَدِيدَةً إلى الْبَحْرِ فَحَدَثَ نَوْءٌ عَظِيمٌ فِي الْبَحْرِ حَتَّى كَادَتِ السَّفِينَةُ تَنْكَسِرُ. 5فَخَافَ الْمَلاَّحُونَ وَصَرَخُوا كُلُّ وَاحِدٍ إلى إِلَهِهِ وَطَرَحُوا الأَمْتِعَةَ الَّتِي فِي السَّفِينَةِ إلى الْبَحْرِ لِيُخَفِّفُوا عَنْهُمْ. وَأَمَّا يُونَانُ فَكَانَ قَدْ نـزلَ إلى جَوْفِ السَّفِينَةِ وَاضْطَجَعَ وَنَامَ نَوْماً ثَقِيلاً. 6فَجَاءَ إِلَيْهِ رَئيسُ النُّوتِيَّةِ وَقَالَ لَهُ: "مَا لَكَ نَائماً؟ قُمِ اصْرُخْ إلى إِلَهِكَ عَسَى أن يَفْتَكِرَ الإِلَهُ فِينَا فَلاَ نَهْلِكَ". 7وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: "هَلُمَّ نُلْقِي قُرَعاً لِنَعْرِفَ بِسَبَبِ مَنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةُ". فَأَلْقُوا قُرَعاً فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونَانَ. 8فَقَالُوا لَهُ: "أَخْبِرْنَا بِسَبَبِ مَنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ عَلَيْنَا؟ مَا هو عَمَلُكَ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ؟ مَا هِيَ أرضكَ وَمِنْ أَيِّ شَعْبٍ أَنْتَ؟"9فَقَالَ لَهُمْ: "أَنَا عِبْرَانِيٌّ وَأَنَا خَائف مِنَ الرَّبِّ إِلَهِ السماءِ الَّذِي صَنَعَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ". 10فَخَافَ الرِّجَالُ خَوْفاً عَظِيماً وَقَالُوا لَهُ: "لِماذا فَعَلْتَ هَذَا؟"فَإِنَّ الرِّجَالَ عَرَفُوا أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ لأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ. 11فَقَالُوا لَهُ: "ماذا نَصْنَعُ بِكَ لِيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنَّا؟"لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَاباً. 12فَقَالَ لَهُمْ: "خُذُونِي وَاطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ فَيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنْكُمْ لأَنَّنِي عَالِمٌ أَنَّهُ بِسَبَبِي هَذَا النَّوْءُ الْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ". 13وَلَكِنَّ الرِّجَالَ جَذَّفُوا لِيُرَجِّعُوا السَّفِينَةَ إلى الْبَرِّ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَاباً عَلَيْهِمْ. 14فَصَرَخُوا إلى الرَّبِّ: "آهِ يا رَبُّ لاَ نَهْلِكْ مِنْ أجل نَفْسِ هَذَا الرَّجُلِ وَلاَ تَجْعَلْ عَلَيْنَا دَماً بَرِيئا لأَنَّكَ يا رَبُّ فَعَلْتَ كَمَا شِئت". 15ثُمَّ أَخَذُوا يُونَانَ وَطَرَحُوهُ فِي الْبَحْرِ فَوَقَفَ الْبَحْرُ عَنْ هَيَجَانِهِ. 16فَخَافَ الرِّجَالُ مِنَ الرَّبِّ خَوْفاً عَظِيماً وَذَبَحُوا ذَبِيحَةً لِلرَّبِّ وَنَذَرُوا نُذُوراً. 17وَأَمَّا الرَّبُّ فَأَعَدَّ حُوتاً عَظِيماً لِيَبْتَلِعَ يُونَانَ. فَكَانَ يُونَانُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أيام وَثَلاَثَ لَيَالٍ"

الله والعالم

اذا سألنا هذا السؤال المصيري: ما هو موقف الله من هذا العالم، اين نذهب لكي نجد الجواب المقنع؟ ليس باستطاعتنا الاجابة على هذا السؤال أن اتكلنا على آرائنا أو افكارنا الخاصة. الجواب الوحيد الذي نستطيع أن نركن اليه هو جواب الوحي الإلهي. والوحي الإلهي ينبئنا عن ترتيب أو منهج الله الخلاصي بخصوص هذه البشرية المعذبة والمتألمة. ويجرى هذا الاعلام الإلهي منذ أيام إبراهيم. فاذا عدنا إلى أيام ما قبل الميلاد فاننا نقول أن إبراهيم هو أعظم شخصية في التاريخ القديم وكل شيء في تلك الحقبة من التاريخ له علاقة بما ذكره الله لعبده وخليله. وتكلم معه الله قائلا"4"أَمَّا أَنَا فَهوذَا عَهْدِي مَعَكَ وَتَكُونُ أَباً لِجُمْهورٍ مِنَ الأُمَمِ 5فَلاَ يُدْعَى اسمكَ بَعْدُ أَبْرَامَ بَلْ يَكُونُ اسمكَ إبراهيم لأَنِّي أَجْعَلُكَ أَباً لِجُمْهورٍ مِنَ الأُمَمِ. 6وَأُثْمِرُكَ كثيراً جِدّاً وَأَجْعَلُكَ أُمَماً وَمُلُوكٌ مِنْكَ يَخْرُجُونَ" (التكوين 17: 4-6).. وبعد أن اظهر إبراهيم إيمانه التام بالله ورغبته في تقديم ابنه اسحق كمحرقة سمع هذه الكلمات السماوية"15وَنَادَى مَلاَكُ الرَّبِّ إبراهيم ثَانِيَةً مِنَ السماءِ 16وَقَالَ: "بِذَاتِي أَقْسَمْتُ يَقُولُ الرَّبُّ أَنِّي مِنْ أجل أَنَّكَ فَعَلْتَ هَذَا الأمر وَلَمْ تُمْسِكِ ابنكَ وَحِيدَكَ 17أُبَارِكُكَ مُبَارَكَةً وَأكثر نَسْلَكَ تَكثيراً كَنُجُومِ السماءِ وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئ. الْبَحْرِ وَيَرِثُ نَسْلُكَ بَابَ أَعْدَائه 18وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأرض مِنْ أجل أَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِي" (التكوين 22: 15-18). ويمكن تلخيص المقصد الإلهي من هذا الوعد العظيم الذي اعطاه لعبده إبراهيم بأن الله كان سيبارك بواسطة نسل الخليل جميع أمم الأرض. فمقصد الله قد حصر معاملاته الخلاصية مع بني إسرائيل بصورة خاصة وذلك في أيام ما قبل الميلاد الا أن ذلك كان أمراً مؤقتا تحضيريا تعليميا لا أمراً نهائيا. وحدث في كثير من الاحيان أن نسي بنو إسرائيل أن الله كان يهيء العالم بأسره للوقوف على النبأ السار بأن واحدا من نسل إبراهيم ألا وهو السيد المسيح كان سيكون سبب بركة لجميع أمم الأرض. لم يفقهوا هذه الحقيقة الأساسية بل تخيلوا أن الله انتخبهم من أجل انفسهم فقط! ومضت الاعوام والأيام والحقب التاريخية المتعددة وازدادت هذه الافكار الضيقة قوة وصلابة حتى أن أحد الأنبياء امتنع عن الامتثال للأمر الإلهي المتعلق بالمناداة بالكلمة في نينوى.

من كان هذا النبي ومتى عاش؟ كان اسمه يونان النبي وقد عاش في القرن الثامن قبل الميلاد في القسم الشمالي من فلسطين أي في اقليم الجليل. هذا النبي مثل في شخصيته بني جنسه، والمصاعب التي جرها على نفسه كانت منبثقة من تعصبه. ولكن الله أعطاه رسالة خاصة فأوصلها إلى أهل نينوى بالرغم من ميوله الخاصة. ورسالة يونان تظهر لنا بأن العالم بأسره هو مسرح لعمل الله الخلاصي وأنه تعالى ينوى انقاذ الناس من سائر الشعوب والاقوام. ومع أن سفر نبوة يونان هو مختلف عن بقية أسفار الأنبياء وذلك لانه لا يحتوى على نبوات – كما نعرفها حسب العادة – الا أن التاريخ المدون في هذا السفر هو تاريخ رمزى ونبوى فهو لذلك يساعدنا على معرفة الله معرفة صحيحة وعلى الوقوف على فحوى مشيئته بخصوص عالمنا.

1. الاقليمية الضيقة تتحدى الله ومشيئته الخلاصية الرحيمة: "1وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إلى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ: 2"قُمِ اذهَبْ إلى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي"ظهرت مشيئة الله الخلاصية والانقاذية في هذه الكلمات التي كان النبي يونان قد استلمها. اذهب يا يونان وناد على تلك المدينة وأنذرها نظرا لكثرة شرورها وآثامها. ومن الجدير بالذكر أن نينوى كانت مدينة هامة للغاية وتقع في شمالي البلاد ما بين النهرين أي بالقرب من مدينة الموصل الحالية في الجمهورية العراقية. هل انصاع النبي إلى أمر الله الصريح؟ كلا انه تحدى الله وقال له: كلا!"3فَقَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ إلى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ"قام يونان بهذا العمل المحزن لأنه كان يعكس في موقفه هذا الاقليمية الضيقة والعنصرية العقيمة التي كانت سائدة في أيامه وبين بني جنسه. لم يهرب يونان النبي من وجه الله لأن المهمة كانت شاقة أو عسيرة بل هرب من الله لأن مهمته كانت قد تؤول إلى خلاص اهل نينوى الغارقين في عبادة الاصنام. وبعبارة أخرى كان يونان يرغب في احتكار الرحمة الإلهية ضمن شعب واحد أو منطقة واحدة أو بقعة واحدة من هذه الكرة الأرضية ولذلك تحدى الله وهرب من وجهه إلى ترشيش (وكانت هذه المدينة مرفأ بناه الفينيقيون في بلاد أسبانيا).. كان عمل يونان هذا بمثابة اعتراض مبدئي على برنامج الله الخاص بإنقاذ العالم من الخطية ومن عواقبها الوخيمة.

2. دينونة الاقليمية الضيقة: "4فَأَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحاً شَدِيدَةً إلى الْبَحْرِ فَحَدَثَ نَوْءٌ عَظِيمٌ.." ظن يونان بأنه يستطيع التهرب من القيام بمطلب الله وانه كان بمقدوره الذهاب باتجاه الغرب بينما كان عليه الذهاب شرقا فشمالا! ولكن الله أرسل دينونته العادلة فوقعت على النبي العاصي على ربه وخالقه. مسكين يونان – ها إنه قد أسرع بكل ما كان في طاقته فوصل ميناء يافا وأقلع مع بحارة ذاهبين إلى مرفأ ترشيش في أسبانيا وما أن وطأت قدماه السفينة حتى هرع إلى جوفها ونام. في النوم كان يستطيع أن ينسى الأمر الإلهي، ولكن متى كان النوم يحل مشاكل الإنسان الشخصية منها والاجتماعية؟

ومن الجدير بالذكر أن البحارة مع كونهم من عابدي الأوثان الا انهم لم يكونوا بدون أي تفهم لأمور الدين ولذلك فانهم أفاقوه من سباته العميق وطلبوا منه أن يصلي إلى إلهه طالباً المعونة. ثم عزموا بأن يلقوا قرعا لمعرفة شخصية الجاني والهارب من وجه الله فوقعت القرعة على يونان.

لم يعد في مقدور يونان بأن يبقي سره في طي الكتمان فأعترف بجرمه وقال"أَنَا عِبْرَانِيٌّ وَأَنَا خَائف مِنَ الرَّبِّ إِلَهِ السماءِ الَّذِي صَنَعَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ"ثم أخبرهم كيف هرب من وجه الله. ثم قال لهم"خُذُونِي وَاطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ فَيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنْكُمْ لأَنَّنِي عَالِمٌ أَنَّهُ بِسَبَبِي هَذَا النَّوْءُ الْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ"تردد بحارة السفينة في القيام بما طلب منهم النبي لأنهم لم يريدوا بأن يكونوا سبب غرق وموت إنسان ولذلك حاولوا بأن يرجعوا سفينتهم إلى الشاطيء ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك وازداد البحر اضطرابا عليهم"14فَصَرَخُوا إلى الرَّبِّ: "آهِ يا رَبُّ لاَ نَهْلِكْ مِنْ أجل نَفْسِ هَذَا الرَّجُلِ وَلاَ تَجْعَلْ عَلَيْنَا دَماً بَرِيئا لأَنَّكَ يا رَبُّ فَعَلْتَ كَمَا شِئت". 15ثُمَّ أَخَذُوا يُونَانَ وَطَرَحُوهُ فِي الْبَحْرِ فَوَقَفَ الْبَحْرُ عَنْ هَيَجَانِهِ"

كيف نفسر اختبار يونان هذا؟ هل نقف موقف المستهزئين والملحدين ونقول اننا لا نقبل هذا الكتاب الموحي به من الله؟ كلا أن قمنا بذلك فأننا نكون حارمين انفسنا رحمة الله وطريقته الوحيدة للخلاص والتحرير والانقاذ من الشر. كلا اننا لن نقف موقفا سلبيا من سفر يونان بل نتعظ مما ورد في الفصل الأول ومن اختبار النبي المرير على السفينة الذاهبة إلى اسبانيا. يكلمنا الله بواسطة ذلك الحدث التاريخي ويقول لنا: لا تتصوروا بأنني مهتم ببقعة واحدة من الأرض فقط، لا تظنوا أن مشيئتي تتعلق بجنس واحد أو بعرق معين. اني قطعت عهدا مع عبدي إبراهيم وقلت له: ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض! ما اهم وعد الله لإبراهيم: جميع امم الأرض، هل سمعنا جيدا؟ جميع امم الأرض تتبارك في نسل إبراهيم. وعد الله هو وعد عام شامل كامل تام لا يمكن جعله اقليميا عنصريا ضيقا. طبعا كما ذكرنا سابقا شاء الله خلال حقبة معينة من التاريخ أن يحصر تعامله مع شعب معين هو بني إسرائيل في أيام ما قبل المسيح ولكن ذلك كان تدبيرا مؤقتا تحضيريا تمهيديا ولكن غايته النهائية كانت تعم الشعوب في العالم كله. ولذلك كان الله يصحح مرارا وتكرارا الآراء الخاطئة التي نبتت على سطح الأرض المقدسة والتي تجسمت في يونان النبي.

النوء الشديد الذي منع يونان عن السفر والقاء يونان من قبل البحارة في البحر هما صورتان حيتان لدينونة الله العادلة والصريحة على اية اقليمية ضيقة أو نظرية تحصر بواسطتها الرحمة الإلهية أو المشيئة الإلهية الانقاذية الخلاصية ضمن أي نطاق ضيق! الله هو اله الناس كلهم ولن تقف في وجهه اية عقبة تمنعه عن القيام بتتميم وعده الإلهي لإبراهيم. وكان وعد الله لإبراهيم أن جميع أمم الأرض ستتبارك بواسطة نسله.

3. رحمة الله تسمو على كل شيء: "17وَأَمَّا الرَّبُّ فَأَعَدَّ حُوتاً عَظِيماً لِيَبْتَلِعَ يُونَانَ. فَكَانَ يُونَانُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أيام وَثَلاَثَ لَيَالٍ" ما أعظم رحمة الله التي تسمو على جميع أخطاء وخطايا الإنسان! لولا رحمة الله لما كان هناك سفر نبوة يونان. لولا رحمة الله لمات يونان غرقا في مياه البحر الابيض المتوسط بالقرب من مدينة يافا!

دينونة الله العادلة منعت يونان من تتميم خطته للهرب من وجه الله. ولكن علاقة الله بالإنسان لا يمكن أن ترى من زاوية الدينونة فقط بل هناك رحمة الله ومحبة الله اللتان لا تتركان الإنسان شأنه لأن الله يود انقاذ الإنسان من شره وضلاله. واما الرب فأعد حوتا... لا لقتل يونان بل لانقاذ يونان.

يجدر بنا أن نذكر الآن أن أعظم من يونان جاء بعد نحو ثمان مئة سنة كان اسمه المسيح. لم يتهرب المسيح من القيام بالمشيئة الإلهية بل ذهب إلى الصليب ليكفر عن خطايا الناس. وقد قبر المسيح وظل تحت سلطة الموت من يوم الجمعة حتى فجر الاحد عندما قام من الأموات واظهر النصر الشامل والكامل على الموت والشر والخطية والشيطان. المسيح هو نسل إبراهيم وبواسطته تتبارك جميع أمم الأرض. لا تتم هذه البركة بطريقة أوتوماتيكية بل بواسطة الإيمان – إيمان كل من يسمع بكلمة الله المفرحة، الثقة التامة بأن المسيح هو المنقذ والمحرر. وفي المسيح يسوع لا عنصرية ولا اقليمية ضيقة، لا شرق ولا غرب، لا شمال ولا جنوب بل اخوية عامة شاملة تعمل على خدمة الله والبشرية المعذبة.

هل اختبرت أيها القارئ العزيز البركة التي وعد بها الله لعبده إبراهيم؟ آمن بالمسيح المخلص فتنال المغفرة والسلام والنصر، آمين.

من جوف الحوت

"1فَصَلَّى يُونَانُ إلى الرَّبِّ إِلَهِهِ مِنْ جَوْفِ الْحُوتِ 2وَقَالَ: "دَعَوْتُ مِنْ ضِيقِي الرَّبَّ فَاسْتَجَابني صَرَخْتُ. مِنْ جَوْفِ الْهاوية فَسَمِعْتَ صَوْتِي. 3لأَنَّكَ طَرَحْتَنِي فِي الْعُمْقِ فِي قَلْبِ الْبِحَارِ. فَأَحَاطَ بِي نَهْرٌ. جَازَتْ فَوْقِي جَمِيعُ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ. 4فَقُلْتُ: قَدْ طُرِدْتُ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْكَ. وَلَكِنَّنِي أَعُودُ أَنْظُرُ إلى هَيْكَلِ قُدْسِكَ. 5قَدِ اكْتَنَفَتْنِي مِيَاهٌ إلى النَّفْسِ. أَحَاطَ بِي غَمْرٌ. الْتَفَّ عُشْبُ الْبَحْرِ بِرَأْسِي. 6نـزلْتُ إلى أَسَافِلِ الْجِبَالِ. مَغَالِيقُ الأرض عَلَيَّ إلى الأَبَدِ. ثُمَّ أَصْعَدْتَ مِنَ الْوَهْدَةِ حَيَاتِي أيها الرَّبُّ إلهي. 7حِينَ أَعْيَتْ فِيَّ نَفْسِي ذَكَرْتُ الرَّبَّ فَجَاءَتْ إِلَيْكَ صَلاَتِي إلى هَيْكَلِ قُدْسِكَ. 8اَلَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كاذبة يَتْرُكُونَ نِعْمَتَهُمْ. 9أَمَّا أَنَا فَبِصَوْتِ الْحَمْدِ اذبَحُ لَكَ وَأوفِي بِمَا نَذَرْتُهُ. لِلرَّبِّ الْخَلاَصُ". 10وَأمر الرَّبُّ الْحُوتَ فَقَذَفَ يُونَانَ إلى الْبَرِّ"

نبوة­ يونان - الفصل الثاني

لماذا لا نكون صريحين للغاية؟ عالم اليوم لا يؤمن بالمعجزات! عالم اليوم هو عالم متحرر ومتفتح، انه عالم خلبه العلم والعلم المطبق في سائر انحاء مرافق الحياة أي التكنولوجيا. وهكذا فإن الجو الفكرى المحيط بنا اليوم لا يسمح لنا بأن نسلم بوجود المعجزات. ولا يكتفي عالم اليوم بانكار امكانية المعجزات بل انه يذهب إلى الوراء تاريخيا وينكر واقعية المعجزات التي حدثت في الماضي. ولسان حال ايديولوجية العصر الحاضر هو: لا آيات ولا معجزات في الأمس أو اليوم أو الغد.

لكن عالم اليوم هو عالم متخبط بالمشاكل المستعصية، مشاكل لم تعرف في الماضي وذات أبعاد كثيرة وكبيرة. وهكذا فإن الجو الفكرى المحيط بنا والذي يشبع سماء عالم اليوم لا يمكن له بأن يتشدق بأنه أكثر واقعية من الإيمان الديني الصحيح ذلك الإيمان الذي يبدأ بعقيدة الخالق عز وجل. وعلينا أن نكون صريحين للغاية كما ذكرنا آنفا ولذلك نقول أن انكار امكانية المعجزات ليس بالأمر المنفرد الشاذ بل انه يشكل جزءا من النظرية الإلحادية التطورية التي هي فلسفة اليوم. وهذه الفلسفة تدعي بأن الكون بأسره هو عبارة عن وجود كوني تلقائي أزلي وان المشاكل والمعضلات والمتناقضات التي نجدها في عالمنا اليوم انما هي من صلب تكوين العالم. وهذا يعني اننا – اذا ما سلمنا بهذه النظرية – نرغم على اعتناق فلسفة حتمية لا تساعدنا مطلقا على حل جميع ما يعكر سماء حياتنا والموضوع الذي نجابهه اليوم ليس هو بالسؤال عما اذا كان هنالك معجزات ام لا؟ هذا أمر فرعي جانبي. الموضوع الحقيقي الذي نجابهه في القسم الأخير من القرن العشرين هو وجود أوعدم وجود الله، هل الله أعظم حقيقة في الوجود ام هل كوننا هذا هو بدون الله؟ هذا هو مفترق الطرق في يومنا هذا: الإيمان الحي بالله أوعدم الإيمان به. الحياد غير ممكن تجاه هذا الموضوع.

ونحن أن سلمنا بالله لابد لنا بأن نذهب إلى الخطوة التالية فنقول اننا نؤمن بالله الخالق. لا يكفينا الاقرار بالله ثم نسيان كل شيء عن هذا الاقرار. نحن نؤمن بالله الخالق أولاً نؤمن به. من اعتقد بوجود الله ولم يذهب إلى الخطوة التالية وأقر بأنه تعالى هو الخالق لكل شيء في الوجود فانه لا يكون معترفا بالاله الحقيقي بل بإله وهمي!

ان آمنا الآن واعترفنا وشهدنا بالله الخالق نكون مقرين بأعظم حقيقة مبدئية في الوجود. أن كانت شهادتنا تبدأ بهذه الحقيقة العظمى، أي أن كنا نرجع كل شيء في الوجود من ناحية كونه وصيرورته، أن كنا نرجع كل ذلك إلى الله أفمن العسير لنا إذ ذاك الإيمان بأن اله يقوم بأمور خارقة للطبيعة؟! من كان مؤمناً بالله الخالق أيصعب عليه الإيمان بحقيقة منبثقة عن تلك الحقيقة الأولية: الاقرار بأن الله شاء أحيانا وقام بمعجزة أو بآية على أرضنا هذه؟ هل من العسير لنا أن نؤمن بأن الله قد سمح لنبي بأن يبتلع من حوت وان يبقى هذا النبي حيا لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال؟!

استهزأ الكثيرون من الناس منذ القديم بحادثة يونان النبي وأنكروا انه ابتلع من الحوت وأنه بقي حيا ولم يصب بسوء. أن عدم الإيمان بمعجزة واحدة هو عدم إيمان بجميع المعجزات الاكيدة المذكورة على صفحات الكتاب ولذلك فنحن نجد انفسنا مرغمين بأن نتكلم عن الموضوع بصورة عامة قبل المجيء إلى البحث في سيرة يونان بصورة خاصة.

كان يونان هذا نبيا وقد عاش في القسم الشمالي من فلسطين في اقليم الجليل وانه استلم دعوة إلهية للذهاب إلى مدينة نينوى للمناداة عليها بكلمة الله. ونينوى هذه كانت مدينة عظيمة كبيرة في شمالي ما بين النهرين أي بالقرب من مدينة الموصل الحالية في الجمهورية العراقية.

نـزل النبي إلى ميناء يافا باتجاه ترشيش. وترشيش هذه كانت مدينة فينيقية في بلاد اسبانيا. طلب الله من النبي الذهاب شرقا فذهب غربا لأن النبي أراد الهرب من وجه الله. ولكن من يستطيع الهرب من الله؟ ارسل الله ريحا شديدة إلى البحر فحدث نوء عظيم حتى أوشكت السفينة على الغرق. وأخيرا اعترف النبي الهارب بذنبه وطلب من البحارة بأن يلقوه في البحر وما أن قاموا بذلك حتى سكت النـوء"17وَأَمَّا الرَّبُّ فَأَعَدَّ حُوتاً عَظِيماً لِيَبْتَلِعَ يُونَانَ. فَكَانَ يُونَانُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أيام وَثَلاَثَ لَيَالٍ"

ولكن لماذا هرب يونان من وجه الرب؟ هل كان متخوفا من أهل نينوى؟ كلا! انه امتنع عن الانصياع لارادة الله لأنه لم يرغب في تبليغ أهل نينوى رسالة الله – لأنهم أن قاموا بما طلبه منهم الله فانهم سينجون من الدينونة. اما يونان فانه كان ذا نـزعة اقليمية عنصرية ضيقة ولذلك فانه قال لله: لا، لن اذهب برسالتي إلى آل نينوى. نلاحظ أن الله عاقب يونان ثم رحمه وانقذه. هذا هو الدرس العظيم الذي نتعلمه من الفصل الثاني من نبوة النبي يونان. كان الحوت سبب خلاص يونان من الموت غرقا في البحر الابيض المتوسط.

1. رحمة الله تسموعلى كل شيء: قد نتعجب إذ نسمع أن يونان رفع صلاة من جوف الحوت فنقول: كيف تمكن النبي من القيام بذلك؟ هل جوف الحوت بمكان لائق بالصلاة إلى الله؟ صلى النبي إلى الله من جوف الحوت صلاة شكر لأنه علم علم الأكيد أن الله عاقبه وانقذه في نفس الوقت. والخلاص الذي اختبره النبي دفعه إلى القول"دَعَوْتُ مِنْ ضِيقِي الرَّبَّ فَاسْتَجَابني"نحن لا نعلم طول الصلاة التي صلاها يونان وهو يهوى إلى الأعماق والله لا يقيس الصلاة حسب كثرة كلماتها. ربما لم يتمكن يونان الا من القول: يا الله! المهم انه دعا الله في ضيقه فاستجابه الرب. وحتى قبل أن يلفظه الحوت على الشاطيء فإن يونان كان متأكدا بأن الله سينقذه ويبقيه حيا على هذه الأرض. ويا له من اختبار أليم! قال النبي واصفا ما جرى له"3لأَنَّكَ طَرَحْتَنِي فِي الْعُمْقِ فِي قَلْبِ الْبِحَارِ. فَأَحَاطَ بِي نَهْرٌ. جَازَتْ فَوْقِي جَمِيعُ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ. 4فَقُلْتُ: قَدْ طُرِدْتُ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْكَ. وَلَكِنَّنِي أَعُودُ أَنْظُرُ إلى هَيْكَلِ قُدْسِكَ. 5قَدِ اكْتَنَفَتْنِي مِيَاهٌ إلى النَّفْسِ. أَحَاطَ بِي غَمْرٌ. الْتَفَّ عُشْبُ الْبَحْرِ بِرَأْسِي. 6نـزلْتُ إلى أَسَافِلِ الْجِبَالِ. مَغَالِيقُ الأرض عَلَيَّ إلى الأَبَدِ"يا لها من أمور مرعبة. ظن النبي للحظات بأن النهاية كانت على الابواب وانه كان سيموت كثائر على الله. ولكنه لم ييأس من رحمة الله. ما أهم هذا الموقف! علينا ألا نيأس من رحمة الله لأن رحمة الله تسموعلى كل شيء. قال النبي"صَرَخْتُ. مِنْ جَوْفِ الْهاوية فَسَمِعْتَ صَوْتِي"نعم ما أعظم رحمتك يا الله وما اسماها! رحمتك تعلوعلى كل شيء!

ولكن رحمة الله ليست لرجل واحد أو انسان واحد أولشعب واحد. رحمة الله هي عامة وشاملة ويستفيد منها كل مؤمن تائب. علم الله عبده ونبيه يونان وهولا يزال في جوف الحوت، علمه بأنه سيظهر رحمته أيضاً لأهل نينوى أولئك الذين كانوا يعبدون الاصنام ويقدمون الذبائح للآلهة الكاذبة. كان الله سيظهر رحمته لهم لأنه تعالى لا يسر بموت الخطاة بل بتوبتهم!

ورحمة الله لا تزال تعمل في دنيانا اليوم أيضاً. هل نتساءل احيانا لماذا لا ينهي الله تاريخ العالم ولماذا لا يأتي اليوم الأخير ولماذا لا يعود السيد المسيح؟ هل نتساءل لماذا لا تنـزل على عالمنا اليوم دينونة الله العادلة؟ الجواب هو أن الله يهتم بعباده وانه رحيم غفور يود من الناس بأن يتوبوا اليه ويبتعدوا عن سائر مظاهر الصنمية والإلحاد. لولا رحمة الله لما كان عالمنا هذا اهلا بالسكني! لولا رحمة الله لقام الإنسان بكل ما يصوره له الشيطان ولصارت أرضنا هذه مثل الجحيم! نعم ما أعظم رحمة الله!

2. نهاية طريق وبداية طريق: في جوف الحوت وصل النبي يونان إلى نهاية طريق السلبية. في جوف الحوت ابتدأ يونان بالسير على طريق الايجابية الموصل إلى الحقيقة المفرحة. قال النبي: "7حِينَ أَعْيَتْ فِيَّ نَفْسِي ذَكَرْتُ الرَّبَّ فَجَاءَتْ إِلَيْكَ صَلاَتِي إلى هَيْكَلِ قُدْسِكَ. 8اَلَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كاذبة يَتْرُكُونَ نِعْمَتَهُمْ. 9أَمَّا أَنَا فَبِصَوْتِ الْحَمْدِ اذبَحُ لَكَ وَأوفِي بِمَا نَذَرْتُهُ. لِلرَّبِّ الْخَلاَصُ"

قد يظهر من الغريب جدا لنا أن يجد الإنسان نفسه وان يعود إلى رشده في جوف الحوت السابح في مياه المتوسط! ولكن أليس هذا هو اختبار العديدين من الناس وان كانوا لم يبتلعوا من قبل حوت حقيقي؟ فعندما نقع في الحضيض نظرا لهربنا من مواجهة الحقيقة وعندما نحاول الهرب من الله الحق وإذ نصل إلى نهاية المسعى ألسنا أيضاً في حالة تساعدنا على السير على طريق جديد الجواب هو نعم فيما اذا صرخنا إلى الله وطلبنا منه المعونة واتكلنا على رحمته وعلمنا بأنه لن يتركنا في جب الهلاك أن تبنا اليه وآمنا بمن أرسله ليكون مخلص العالم.

فكما كان جوف الحوت نهاية الطريق وبداية الطريق بالنسبة ليونان هكذا أيضاً يمكن لمصاعب الحياة بأن تكون بالنسبة الينا – فيما اذا تمسكنا برحمة الله.

وقد تقول لي: ولكن كيف أتأكد أنا من رحمة الله؟ أنا لا أستطيع أن اعيد اختبار يونان في حياتي. هذا صحيح، كان اختبار يونان فريدا من ناحية ولكنه كان أيضاً اختبارا رمزيا ودلنا على عدم امكانية الهرب من الله. لنعود إلى سؤالك: كيف أتأكد من رحمة الله؟ نرى رحمة الله على ذروتها في شخص وحياة واختبارات المسيح. لقد جاء السيد المسيح له المجد مرسلا من الله ليقوم بعمل انقاذى حاسم ولصالح سائر المؤمنين به. لقد اظهر المسيح عظمة رحمة الله بموته عنا كفاريا ونيابيا على صليب خشبي. وقد ظل هو أيضاً في حالة الموت لمدة ثلاثة أيام ثم قام منتصرا على الموت لكي ينقذ كل من يؤمن به. لولا رحمة الله ولولا محبة الله لنا لما جاء المسيح ولما تعذب ولما مات ولما قبر ولما قام من الأموات.

نعم ظهرت رحمة الله في حياة يونان النبي ولكن رحمة الله ظهرت بصورة فائقة في حياة وأعمال المسيح الذي هو أعظم من يونان. هل تؤمن بالمسيح إيماناً خلاصيا؟ آمن اليوم واختبر ضمن حياتك الحرية الحقيقية التي يمنحها الله لنا نظرا لرحمته العظيمة، آمين.

غضب الله ورحمته

"1ثُمَّ صَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إلى يُونَانَ ثَانِيَةً: 2"قُمِ اذهَبْ إلى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ لَهَا الْمُنَادَاةَ الَّتِي أَنَا مُكَلِّمُكَ بِهَا". 3فَقَامَ يُونَانُ وَذَهَبَ إلى نِينَوَى بِحَسَبِ قَوْلِ الرَّبِّ. أَمَّا نِينَوَى فَكَانَتْ مَدِينَةً عَظِيمَةً لِلَّهِ مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ أيام. 4فَابْتَدَأَ يُونَانُ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَاحِدٍ وَنَادَى: "بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً تَنْقَلِبُ نِينَوَى" 5فَآمَنَ أَهْلُ نِينَوَى بِاللَّهِ وَنَادُوا بِصَوْمٍ وَلَبِسُوا مُسُوحاً مِنْ كَبِيرِهِمْ إلى صَغِيرِهِمْ. 6وَبَلَغَ الأمر مَلِكَ نِينَوَى فَقَامَ عَنْ كُرْسِيِّهِ وَخَلَعَ رِدَاءَهُ عَنْهُ وَتَغَطَّى بِمِسْحٍ وَجَلَسَ عَلَى الرَّمَادِ. 7وَنُودِيَ فِي نِينَوَى عَنْ أمر الْمَلِكِ وَعُظَمَائه: "لاَ تَذُقِ النَّاسُ وَلاَ الْبَهَائم وَلاَ الْبَقَرُ وَلاَ الْغَنَمُ شَيْئا. لاَ تَرْعَ وَلاَ تَشْرَبْ مَاءً. 8وَلْيَتَغَطَّ بِمُسُوحٍ النَّاسُ وَالْبَهَائم وَيَصْرُخُوا إلى اللَّهِ بِشِدَّةٍ وَيَرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيئة وَعَنِ الظُّلْمِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ 9لَعَلَّ اللَّهَ يَعُودُ وَيَنْدَمُ وَيَرْجِعُ عَنْ حُمُو غَضَبِهِ فَلاَ نَهْلِكَ". 10فَلَمَّا رَأى اللَّهُ أعمالهُمْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيئة نَدِمَ اللَّهُ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي تَكَلَّمَ أن يَصْنَعَهُ بِهِمْ فَلَمْ يَصْنَعْهُ"

نبوة يونان- الفصل الثالث

ما هو موقف الله من عالمنا اليوم؟ هل الله راض عما يجرى على أرضنا هذه من شرور وآثام ومعاصي؟ الجواب هو: كلا! الله غير راض على عالمنا اليوم لأن الله لا يرغب مطلقا في رؤية الشر يدمر عالمه الذي خلقه والذي هو لمجد اسمه القدوس؟ لا يرضى الله عن كل عمل مخالف لمشيئته المقدسة والذي يتم على أرضنا. الشر المرتكب يجلب غضب الله على الناس لأن الشر الذي يرتكبه الإنسان انما هو تحد لله القادر على كل شيء والذي له السلطة المطلقة في كوننا هذا بما في ذلك عالم الإنسان. وهكذا فاننا اذا عدنا إلى السؤال الأول: ما هو موقف الله من عالمنا اليوم لابد لنا من القول بأن الله غاضب على عالمنا لأن الناس يعبثون بوصاياه واحكامه ويظنون بأنهم يستطيعون بأن يبنوا عالما جديدا بدون اخذ الله وشريعته بعين الاعتبار. كيف يمكن لله بأن يرضى على الذين يتحدونه ويقفون منه موقفا سلبيا؟

وما ذكرناه آنفا عن غضب الله على عالمنا ليس بالموقف الوحيد الذي يقفه الله تجاه خليقته، إذ انه تعالى اسمه لو كان غاضبا فقط على عالمنا ولو كان الغضب موقفه الوحيد لما بقي إنسان على أرض البسيطة! هناك موقف اخر لله تجاه عالمه وهذا هو موقف الرحمة. الله رحيم رؤوف يشفق على عباده وهولا يسر ولا يبتهج بموت الخطاة بل يبغي توبتهم ورجوعهم اليه. كيف نؤكد اليوم هذين الأمرين عن الله بخصوص موقف من العالم؟ كيف نقول في أن واحد أن الله غاضب علينا وعلى عالمنا وبأنه يشفق علينا في أن واحد؟ نقول ما قلناه لا لأننا ابتدعنا شيئا جديدا بل لأننا انما نرى هذا التعليم الهام على صفحات الوحي الإلهي المدون في الكتاب المقدس.

نرى في حياة النبي يونان وفي الوحي الذي استلمه هذا النبي من الله أن موقف الله من العالم هو في أن واحد موقف غضب على الشر والخطية والاثم بشتى ابعادها وموقف رحمة وشفقة على الناس الذين يحتاجون إلى الخلاص والتحرير والانعتاق من الشر والخطية والاثم والمعصية.

علم يونان بواسطة اختباره المرير انه من المستحيل التهرب من الله أو الوقوف المتحد للخالق تعالى اسمه. يخبرنا الوحي ان"1ثُمَّ صَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إلى يُونَانَ ثَانِيَةً: 2"قُمِ اذهَبْ إلى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ لَهَا الْمُنَادَاةَ الَّتِي أَنَا مُكَلِّمُكَ بِهَا". 3فَقَامَ يُونَانُ وَذَهَبَ إلى نِينَوَى بِحَسَبِ قَوْلِ الرَّبِّ. أَمَّا نِينَوَى فَكَانَتْ مَدِينَةً عَظِيمَةً لِلَّهِ مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ أيام. 4فَابْتَدَأَ يُونَانُ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَاحِدٍ وَنَادَى: "بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً تَنْقَلِبُ نِينَوَى"

1. بعد أربعين يوما تنقلب نينوى: تعبر هذه الكلمات عن غضب الله على الخطية وتظهر لنا في نفس الوقت أن هذا الغضب ليس بموقف نظرى أو خيالي بل انه يجلب دينونة الله. نعم لا يرضى الله على الناس ولا على الجماعات الذين يعيشون وكأنه لم يتكلم أوكأنه سبحانه وتعالى لم يعط شريعته لبني البشر. أن ارتكاب الشر على الصعيد الفردى والاجتماعي انما هو تحد سافر لله ولسلطته وملكوته. وهذا التحد لا يمكن له أن يستمر بدون قصاص لأن الله لا ينكر ذاته. وبما أن شر نينوى كثر جدا فإن الله صمم بأن يقلب تلك المدينة بما فيها من بشر وحيوانات بعد مدة اربعين يوما.

وما كتب في الأسفار النبوية انما هو لتعليمنا نحن البشر الذين نعيش بعد آلاف من السنين في تلك الأيام. لا يتغير الله من يوم إلى آخر بل انه هو هو امس واليوم وإلى الابد فإن كان الله يغضب على الشر في أيام النبي يونان أفنظن انه لا يغضب على الشر في أيامنا هذه أيضاً؟

وبينما كان الناس في تلك الأيام لا يعرفون الا النـزر اليسير عن الله وذلك لأنهم كانوا في أغلبيتهم قد وقعوا فريسة للوثنية الا اننا في هذه الأيام لا نقدر بأن نظهر نفس الجهل. نحن سكان القرن العشرين نعيش في أيام اكتمال الوحي الإلهي. اننا نعيش في ظل العهد الجديد وقد سمعنا عن موقف الله من الشر والمعصية أكثر بكثير من معاصري يونان النبي. فلنحذر اذن من الاختباء وراء اعذار واهية ونقول اننا لا نعلم أي شيء عن موقف الله منا أو عن علاقة الله بأمور عالمه. طبعا أن دينونة الله لا تقع دائما على الناس على منوال واحد بل أن لها اشكال وانواع مختلفة ولكن الدينونة اكيدة – لكل من يستمر في الثورة على الله وعلى وحيه المقدس.

عندما نادى يونان النبي بكلمة الله على نينوى فإن مناداته كانت تظهر رحمة الله أيضاً. لوكان موقف الله مجرد موقف الغضب لما كانت حاجة إلى انذار يونان للناس بل لوقعت الدينونة على نينوى بدون سابق مناداة. وهكذا نقول: حتى عندما ينذر الله الناس ويظهر غضبه على شرهم وضلالهم فانه يظهر في نفس الوقت رحمته وشفقته. فلنذكر جيدا اذن أن الله يسر بالتوبة ويقوم بحث الناس على العودة عن غيهم وضلالهم وذلك بواسطة المناداة بكلمته الخلاصية.

"5فَآمَنَ أَهْلُ نِينَوَى بِاللَّهِ وَنَادُوا بِصَوْمٍ وَلَبِسُوا مُسُوحاً مِنْ كَبِيرِهِمْ إلى صَغِيرِهِمْ"رأي سكان تلك المدينة العظيمة نبيا ينادي في وسطهم وينذرهم بالعاقبة الوخيمة التي كانت تنتظرهم بعد اربعين يوما – فيما اذا استمروا على شرورهم وآثامهم ومعاصيهم وخطاياهم. رأوا يونان وسمعوا كلماته القليلة التي كانت تعبر عن موقف الله منهم. وظهر لهم بوضوح مفترق الطريق: اما الاستمرار على الطريق المعوج واختبار دينونة الله العادلة أو التوبة والإيمان بالله والسير على سراطه المستقيم والوصول إلى الحياة. اختار اهل نينوى الطريق الثاني وأظهروا ذلك بصورة عملية كما رأينا في النص الكتابي.

ان المظاهر الخارجية للديانة لا تنفع في حد ذاتها أي أن كانت بمفردها وان كان يقوم بها الناس بصورة روتينية ولكن المظاهر الخارجية لها قيمة كبيرة فيما اذا كانت تعبر عن الشعور العميق بالحزن والتوبة إلى الله. وهكذا علينا أن نفسر موقف ملك نينوى والعظماء وسائر الناس في تلك المدينة انهم تابوا إلى الله توبة كبيرة واظهروا حزنهم العميق بسبب شرورهم ومظالمهم وذلك عندما صاموا وصلوا إلى الله. هل سمع الله لصلواتهم؟

يخبرنا الوحي"10فَلَمَّا رَأي اللَّهُ أعمالهُمْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيئة نَدِمَ اللَّهُ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي تَكَلَّمَ أن يَصْنَعَهُ بِهِمْ فَلَمْ يَصْنَعْهُ"، نعم ما أعظم رحمة الله وما اشد محبته لبني البشر. تاب اهل نينوى عن شرهم ولذلك قرر الله بأن لا يجلب عليهم الدينونة التي أنذرهم بها.

وما علاقة كل ذلك بنا اليوم؟ نحن نعيش في عالم مختلف عن عالم أيام ما قبل الميلاد. طبعا يختلف عالمنا من عدة وجوه عن عالم أيام النظام القديم ولكن الله لم يتغير وموقف من البشرية لم يتغير. انه تعالى لا يزال يغضب على الشر والاثم ولا يزال ينذرنا نحن بني البشر لكي نعود اليه تائبين.

ونحن نعيش في ظل النظام الجديد أي في أيام ما بعد المسيح، في أيام تتميم عمل الله الخلاصي الفدائي التحريرى والانقاذى. أن مسيح الله جاء إلى عالمنا وعلمنا الكثير عن الله واظهر لنا أن باب التوبة هو مفتوح لكل إنسان وان الله يطلب منا جميعا الا نبقى على شرورنا وآثامنا بل نعود اليه تائبين. وقد مات المسيح على الصليب للتكفير عن خطايانا نحن الذين نؤمن به، ولذلك فانه ليس هناك أي عذر مقبول لمن يستمر في الثورة على الله. ومع أن مهمة المسيح كانت انقاذية وتحريرية وخلاصية وفدائية عندما وفد عالمنا منذ نحو الفي سنة – الا أن وقت التوبة محدود. نحن لا نعلم متى ستنـزل دينونة الله على أرضنا هذه وبصورة كبيرة، ولكننا نعلم علم الأكيد بأن الدينونة آتية أن لم يحصل رجوع عام وشامل في عالمنا هذا إلى الله وإلى شريعته المقدسة.

لابد انك مهتم بصورة كبيرة بمصيرك الخاص يا قارئي الكريم. هل تود أن تنجو من الدينونة الآتية وهل تود أن تخلص من غضب الله الذي سيقع على عالمنا هذا؟ آمن بمن جاء من الله ليكون فادي البشرية الأوحد، آمن بالمسيح المخلص فتنال حياة أبدية لن تنـزع منك. واعلم جيدا أن المسيح الآتي ثانية إلى عالمنا سيأتي ليدين الأحياء والأموات وليؤسس ملكوته الأبدي العظيم، هذا هو رجاؤنا الحي، آمين.

رحمة الله العظيمة

"1فَغَمَّ ذَلِكَ يُونَانَ غَمّاً شَدِيداً فَاغْتَاظَ 2وَصَلَّى إلى الرَّبِّ: "آهِ يا رَبُّ أَلَيْسَ هَذَا كَلاَمِي إذ كُنْتُ بَعْدُ فِي أرضي؟ لِذَلِكَ بَادَرْتُ إلى الْهَرَبِ إلى تَرْشِيشَ لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلَهٌ رَأوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ. 3فَ الآن يا رَبُّ خُذْ نَفْسِي مِنِّي لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي" 4فَقَالَ الرَّبُّ: "هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ؟" 5وَخَرَجَ يُونَانُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَجَلَسَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ وَصَنَعَ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ مَظَلَّةً وَجَلَسَ تَحْتَهَا فِي الظِّلِّ حَتَّى يَرَى ماذا يَحْدُثُ فِي الْمَدِينَةِ. 6فَأَعَدَّ الرَّبُّ الإِلَهُ يَقْطِينَةً فَارْتَفَعَتْ فَوْقَ يُونَانَ لِتَكُونَ ظِلاًّ عَلَى رَأْسِهِ لِيُخَلِّصَهُ مِنْ غَمِّهِ. فَفَرِحَ يُونَانُ مِنْ أجل الْيَقْطِينَةِ فَرَحاً عَظِيماً. 7ثُمَّ أَعَدَّ اللَّهُ دُودَةً عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ في الْغَدِ فَضَرَبَتِ الْيَقْطِينَةَ فَيَبِسَتْ. 8وَحَدَثَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أن اللَّهَ أَعَدَّ رِيحاً شَرْقِيَّةً حَارَّةً فَضَرَبَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِ يُونَانَ فَذَبُلَ فَطَلَبَ لِنَفْسِهِ الْمَوْتَ وَقَالَ: "مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي" 9فَقَالَ اللَّهُ لِيُونَانَ: "هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ مِنْ أجل الْيَقْطِينَةِ؟"فَقَالَ: "اغْتَظْتُ بِالصَّوَابِ حَتَّى الْمَوْتِ". 10فَقَالَ الرَّبُّ: "أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى الْيَقْطِينَةِ الَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلاَ رَبَّيْتَهَا الَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. 11أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أكثر مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَبْوَةً مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ وَبَهَائم كَثِيرَةٌ!"

نبوة يونان الفصل الرابع

اذا القينا نظرة خاطفة على عالمنا اليوم نشاهد حالا مشاكلا مستعصية تقض مضاجع الناس. وكلما استفقنا من نومنا في صباح كل يوم انما نستفيق للمشاكل والمعضلات التي لم نحلها والتي سنواجهها في هذا اليوم. لقد اصبحت الحياة في أيامنا هذه حياة شاقة مليئة بالمخاطر العديدة التي لم يكن يحلم بها آباؤنا وأجدادنا في العصور الماضية.

وإذا وضعنا اللوم كله على الاكتشافات العديدة التي يتميز بها عصرنا الحاضر فأننا نكون من الخاطئين. الاكتشافات العديدة التي يكتظ بها عالمنا اليوم يمكن أن تستعمل اما للخير أو للشر. من العبث لوم الطائرة مثلا أن جلبت معها الموت والهلاك اذا انها قد جلبت أيضاً الخير والسعادة. الاختراع هو موضوع حيادى يمكن أن يتحول اما كأداة للخير أو للشر. يجب أن نضع اللوم على الإنسان: مشكلة المشكلات هو الإنسان لا أكثر ولا اقل. الإنسان هو الذي يستعمل اكتشافات العصر الحاضر كأداة للشر وليس فقط كأداة للخير. الإنسان المعاصر كقرينه الإنسان القديم لا يبغي الخير لقريبه الإنسان! وهذا هو لب المشكلة في هذا العصر. ونحن نشعر بشدة مشاكل أيامنا هذه نظرا لتكاثر الناس على كرتنا الأرضية بصورة لم يكن لها مثيل في عصور التاريخ ونظرا لكثرة الاختراعات الممكن استعمالها للشر. ولكن أساس المشكلات لا يكمن في مجرد تكاثر الناس ولا في كثرة اختراعاتهم بل في الإنسان ذاته. يعيش الإنسان في عالمه الصغير هذا عيشة غير متناسقة مع صلب نظام الوجود الذي أوجده الخالق عز وجل. لقد أصبح الإنسان غريبا واجنبيا في ذات الأرض التي وضع عليها كمواطن واصيل.

اتريد أن ترى ابعاد المشكلة البشرية؟ تعال معي لنستعرض سيرة حياة احد الأنبياء الذين عاشوا في أيام ما قبل الميلاد ألا وهو يونان النبي.

كما رأينا من قراءتنا للفصل الرابع من نبوة يونان نلاحظ انه من الممكن أن نظن الآن أن ما حدث في مدينة نينوى صار سبب فرح وبهجة في قلب يونان النبي ولكننا نكون مخطئين اذا فكرنا أن النبي رحب بقرار الله بألا يقلب مدينة نينوى وذلك لأن سكانها من كبيرهم إلى صغيرهم تابوا إلى الله. نقرأ في الوحي الإلهي ما يلي"1فَغَمَّ ذَلِكَ يُونَانَ غَمّاً شَدِيداً فَاغْتَاظَ 2وَصَلَّى إلى الرَّبِّ: "آهِ يا رَبُّ أَلَيْسَ هَذَا كَلاَمِي إذ كُنْتُ بَعْدُ فِي أرضي؟ لِذَلِكَ بَادَرْتُ إلى الْهَرَبِ إلى تَرْشِيشَ لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلَهٌ رَأوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ. 3فَ الآن يا رَبُّ خُذْ نَفْسِي مِنِّي لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي" 4فَقَالَ الرَّبُّ: "هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ؟"

اغتم يونان لأن الله لم يدمر مدينة نينوى؟! ولكن كيف يمكن ليونان بأن يتخذ هكذا موقف شاذ؟! أن يونان انما هو طراز أورمز للإنسان حتى للإنسان المستنير نظريا – لا حياتيا – المستنير بالمعرفة الصحيحة عن الله والذي نراه لا يضع هذه المعرفة موضع التنفيذ في حياته اليومية. يونان هو ممثل للاقليمية الضيقة الافاق، انه ممثل للتعصب الاعمى لجنس واحد أو لعرق واحد أو لأسرة بشرية واحدة. والذي يؤلم ويؤلم بشدة انه كان يعرف عن الله معرفة صحيحة. ألم يعترف يونان الاعتراف الحسن عندما قال لله في صلاته انك اله رؤوف ورحيم بطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر! نعم أن الله رؤوف ورحيم بطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر أي انه تعالى اسمه لا يجلب الشر على الأشرار – فيما اذا تابوا وعادوا إلى ربهم واعترفوا بالله. كان يونان يعرف الكثير عن الله وعن صفات الله وعن موقف الله من البشرية ولكنه استخلص من هذه عكس ما يود الله من الناس أن يستخلصوا! نظرا لأن أهل نينوى آمنوا بالله واختبروا رحمة الله وغفرانه فإن يونان حسدهم على ذلك وقال لله"3فَ الآن يا رَبُّ خُذْ نَفْسِي مِنِّي لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي" 4فَقَالَ الرَّبُّ: "هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ؟"!

ظل يونان يترجى دمار المدينة العظيمة فخرج من المدينة وجلس شرقي نينوى وصنع لنفسه هناك مظلة وجلس تحتها في الظل حتى يرى ماذا يحدث في المدينة ونلاحظ هنا أن الله تعالى اراد أن يلقن عبده درسا عمليا لا ينساه فلذلك أعد يقطينة فارتفعت فوق يونان لتكون ظلا على رأسه لأن الشمس كانت حادة للغاية. ففرح يونان من أجل اليقطينة فرحا عظيما! ثم أعد الله دودة عند طلوع الفجر في الغد فضربت اليقطينة فيبست. وحدث عند طلوع الشمس أن الله اعد ريحا شرقية حارة فضربت الشمس على رأس يونان فطلب لنفسه الموت وقال"مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي"

"هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ مِنْ أجل الْيَقْطِينَةِ؟"فَقَالَ: "اغْتَظْتُ بِالصَّوَابِ حَتَّى الْمَوْتِ". 10فَقَالَ الرَّبُّ: "أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى الْيَقْطِينَةِ الَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلاَ رَبَّيْتَهَا الَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. 11أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أكثر مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَبْوَةً مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ وَبَهَائم كَثِيرَةٌ!"

اين كان منطق يونان؟ اغتاظ يونان لأن اليقطينة هلكت والتي كانت بنت ليلة واحدة ولكنه لم يسر عندما أنقذ الله سكان مدينة نينوى الذين كانوا عديدين إذ كان لديهم من الاطفال مائة وعشرين ألف طفلا؟ اين المعرفة الحياتية لله التي كان عليها أن تظهر في موقف يونان من آل نينوى؟

قد نهز رؤوسنا ونحن نحكم بشدة على يونان وعلى موقفه الشاذ وغير الحميد من سكان مدينة نينوى. الا انه يجدر بنا أن نفكر في الموضوع مليا ونرى أن يونان لم يكن ممثلا لنفسه فقط بل انه كان طراز الكثيرين من الناس الذين كانوا يودون احتكار رحمة الله وبركته لأنفسهم فقط. اختبار يونان ليس بالاختبار الفريد بل انه اختبار رمزى نرى فيه بشاعة العنصرية والاقليمية الضيقة نرى في نفس الوقت عظمة رحمة الله التي تسمو على كل شيء.

ولكن لابد لنا من أن نسأل انفسنا هذا السؤال: كيف يجد الإنسان الخلاص من هكذا مواقف غير متلائمة مع المشيئة الإلهية؟ كيف يجد الإنسان الحرية الحقيقية ليكون إنسانا حقيقيا لا قزما ولا بشريا مشوها؟! كيف يحصل الإنسان على الانقاذ الروحي الذي يساعده بأن يرى الله الرحيم الغفور والذي يود خلاص الناس لا هلاكهم؟

في الوقت المعين من قبل الله وبعد مئات السنين من أيام يونان وفد عالمنا هذا مسيح الله المخلص يسوع المسيح! وقد جاء إلى دنيانا هذه دنيا العذاب والشقاء دنيا الكراهية والبغضاء والعنصرية لكي ينقذ الإنسان من هذه الأمور المحزنة التي تعبث بحياته فرديا وجماعيا. وقد عاش المسيح حياة ملؤها المحبة والرحمة والغفران والقداسة والطهارة وانتهت حياته بالموت على خشبة الصليب خارج مدينة القدس. ولم يكن موت المسيح عبارة عن مفاجأة أو نهاية مفجعة بل كان أعظم عمل تم في دنيانا هذه ألا وهو عمل الله الفدائي الخلاصي الانقاذي التحريري. مات المسيح لكي ينقذ الإنسان من سطوة الشر والشيطان. لقد مات المسيح كفاريا أي للتكفير عن خطية الإنسان ولكي يستطيع الإنسان المؤمن بأن يكون إنسانا بالحقيقة عاكسا في حياته وفي مواقفه وفي تصرفاته رحمة الله وغفرانه.

فالسؤال الحيوي الذي نواجهه اليوم هو: هل نود بأن نكون من الذين يعرفون الكثير عن الله وعن صفاته وكماله والذين يفتقرون إلى القوة التي تمكنهم من العيش بمقتضى هذه المعرفة؟ أم هل اننا نرغب في معرفة الله معرفة حياتية خلاصية إيمانية تلك التي تمكننا من أن نكون من سفراء المصالحة، المصالحة مع الله والمصالحة بين الإنسان وقرينه الإنسان. لنأتي إلى من كان أعظم من يونان، لنأتي إلى المسيح المخلص ولنؤمن به إيماناً قلبيا ولنؤكد بأنه مات عنا لكي نتمكن من الابتهاج والفرح برحمة الله لا أن نتجادل مع الله كما كان يونان يفعل قبل اختباره النهائي، آمين. 

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع النور.
  • عدد الزيارات: 9144