لاهوت الروح القدس وعمله
1- لاهوت الروح القدس
أتحدث في هذا الفصل عن الروح القدس. وقبل الخوض في الموضوع ألفت الانتباه أولاً إلى أن الروح القدس هو روح الله المهيب، المبدع، الكلي القداسة. وهو يطل علينا مع الكلمة والآب في فاتحة الكتاب المقدس، حيث نقع على العبارة القائلة: "وروح الله يرف على وجه المياه". وفي الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متى أشار إليه المسيح محذراً بقوله: "كل خطية وتجديف يغفر للناس وأما التجديف على الروح القدس فلن يغفر للناس". لذلك لا يجوز أن نتحدث عن الروح القدس بخفة وطيش بل بمهابة وخشوع. تقول كلمة الله "من خالف ناموس موسى فعلى فم شاهدين أو ثلاثة يموت بدون رأفة. فكم عقاباً أشر تظنون أنه يحسب مستحقاً من داس ابن الله... وازدرى بروح النعمة".
ثانياً: عندما نتحدث عن الروح القدس فنحن لا نتحدث عن مخلوق أو إنسان أو طاقة أو تعليم أو مؤثر بل عن الأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس – نتكلم عن شخصية مميزة عن شخصية الآب وشخصية الابن. فهو يعمل ويفحص ويتكلم ويشهد ويعزي ويعلم ويرشد ويوبخ ويوجه ويدعو إلى الخدمة. وقد ورد اسمه مراراً إلى جانب اسم الآب والابن. مثال على ذلك قول المسيح: "وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس". وفي البركة الرسولية يقول بولس الرسول: "نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس تكون معكم". وفي الإصحاح 12 من رسالة كورنثوس الأولى يقول الرسول نفسه: "الروح واحد...الرب واحد..الله واحد". وهذا ليس دليلا على شخصيته فقط بل أيضاً على لاهوته. فالآب هو الله، والابن هو الله، والروح القدس هو الله. ولهذا قيل أنه "روح أزلي" وأنه "يفحص كل شييء حتى أعماق الله". وفي المزمور 139 قيل أنه كلي الوجود وفي الإصحاح 1 من إنجيل لوقا كلي القدرة، وفي سفر أيوب تقع عيوننا على العبارة القائلة: "روح الرب صنعني ونسمة القدير أحيتني" مما يشير بوضوح إلى أن الروح القدس شارك الآب والابن في عملية الخلق.
أما ألقاب الروح القدس في الكتاب المقدس فهي كثيرة وهاكم بعضها: روح الله، روح السيد الرب، روح الآب، روح النعمة، روح الحق، روح القداسة، روح الحياة، روح المسيح، روح التبني، روح الابن، روح النبوة والروح الأزلي.
بالإضافة إلى لاهوت الروح القدس وألقابه يهمني أن أتحدث بقليل من التفصيل عن أعماله فما هي أعماله:
أولاً: الروح يندد. قال المسيح لتلاميذه في الإصحاح 16 من إنجيل يوحنا "خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزي" (الروح القدس). ثم تابع قائلاً: "ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة". فالروح يندد بمعنى أنه يوبخ ويبكت ويكشف عيوبنا وذنوبنا بحيث نرى نفوسنا على حقيقتها لا كما يراها الناس ولا كما نراها نحن. فنحن خطاة، وبسبب كبرياء قلوبنا لا نحب أن تسلط الأضواء على حياتنا لئلا نفضح. أما الروح القدس فلا يؤالس ولا يدالس بل يقول لنا الحقيقة كما هي. والحقيقة هي أننا خطاة ملوثون دنسون. وأكبر خطية كما قال المسيح، هي "أنهم لا يؤمنون بي" في حين أن الكتاب يقول: "بدون إيمان لا يمكن إرضاء الله".
لما كان المسيح على الأرض، كان هو شخصياً يقوم بعملية التنديد والتبكيت وكشف الخطايا. ولكن لما دنت ساعة رحيله من هذا العالم قال لتلاميذه أن نائبه على الأرض (الروح القدس) هو الذي سيتابع عمل التبكيت، وهكذا صار فالروح المعزي هو نائب المسيح على الأرض لأنه مساو للابن والآب.
ثانياً: الروح يجدد. يقول بولس الرسول في الإصحاح الخامس من رسالة كورنثوس الثانية "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة".
هذا هو المقصود بالتجديد. أما عامل التجديد فهو روح الله، ولهذا دعي التجديد في رسالة تيطس "تجديد الروح القدس". وقد أوضح الرب هذه النقطة مع المعلم نيقوديموس لما قال له: "ينبغي أن تولدوا من جديد". ولما لم يفهم المقصود قال له يسوع: "المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح". فالروح القدس هو الذي يلد الإنسان التائب المؤمن ولادة روحية ويجعله إنساناً جديداً وابناً لله.
السؤال الآن هو: هل اختبرتَ هذا التنديد وهذا التجديد في قلبك وحياتك؟ يقول الله في الإصحاح 6 من سفر التكوين "روحي لا يدين الإنسان إلى الأبد". فالروح القدس لطيف ووديع وقد حل على المسيح بهيئة حمامة ولكن حذار أن تقسي قلبك أو أن تحزنه أو تقاومه. ففي هذه الحالة يفارقك وتخسر فرصة الخلاص والغفران إلى الأبد. أشجعك أن تفتح قلبك له بواسطة الإيمان لكي يدخل ويرش دم المسيح على حياتك وهكذا تتغير وتتبرر وتتحرر وتصير ابناً لله. وهذه هي قمة السعادة. افعل هذا قبل فوات الأوان!
2- عمل الروح القدس
هذا الفصل هو تكملة للفصل السابق الذي ختمتُه بالكلام عن أعمال الروح القدس. ومما قلناه هو أن روح الله يندد ويجدد وهكذا يتحول النجيس إلى قديس والجسداني إلى روحاني. وليس للإنسان فضل في ذلك. الفضل كله هو لله الروح.
فالروح القدس الذي يندد ويجدد هو نفسه يعمّد. ولا أقصد هنا معمودية السماء التي يختبرها المرء عند تجديده وولادته الروحية. فالمسيح وُلد جسدياً من العذراء بفعل الروح القدس، ونحن نولد روحياً من العلاء بعمل الروح نفسه. وعندما تتم الولادة الروحية يسكن الروح الواحد في قلب الإنسان مصيِّراً إياه عضواً في جسد المسيح الواحد. وهنا السر في "وحدانية الإيمان" المعروفة أيضاً باسم "وحدانية الروح" فالحديث عن معمودية الروح مرتبط ارتباطاً وثيقاً بوحدانية الروح "لأننا جميعاً بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد وجميعنا سقينا روحاً واحداً". فالوحدة بين المؤمنين هي بفضل الروح الواحد لا سواه. وما يسمونه اليوم بوحدة الكنائس إنما هو عمل من صنع البشر، لأن وحدانية الروح هي اختبار تلقائي بين جميع المولودين ثانية بعمل الروح القدس. فهي كالوحدانية التلقائية التي يشعر بها الأخوة المنتمون إلى عائلة واحدة. فمن منا سمع أخاً يقول لأخيه "تعال نتحد" وهما من أب واحد؟ هكذا المؤمنون الحقيقيون هم من أب واحد هو الله وروح الله يسكن فيهم.
رابعاً : الروح يؤكد. يخاطب يوحنا قرّاءه قائلاً: "كتبتُ إليكم أنتم المؤمنون باسم ابن الله لكي تعلموا (تتأكدوا) أن لكم حياة أبدية". وكم نشكر الله لأجل تأكيد الخلاص الذي يعطيه للمؤمنين. فلولا هذا التأكيد لعاش الواحد منا قلقاً على مستقبله ومصيره.
عوامل تأكيد الخلاص هي:
1. الدم المسفوك. يقول الله "أرى الدم فأعبر عنكم".
2. السفر المفتوح أي كلمة الله الصادقة والأمنية.
3. شهادة الروح. "الروح نفسه يشهد (يؤكد) لأرواحنا أننا أولاد الله" أي أنه يمنح المؤمن طمأنينة داخلية بأن الله قبله وغفر خطاياه.
خامساً: الروح يشدد. قال يسوع في الإصحاح الأول من أعمال الرسل "تنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم". وقد دعاه الرب يسوع "الروح المعزي" عندما وعد تلاميذه بإرساله إليهم. والملاك جبرائيل عند بشارته للعذراء قال "الروح القدس يحل عليك وقوة العليّ تظللك". هل غريب بعد قول المسيح "خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي"؟
لما كان المسيح على الأرض لم يكن موجوداً إلا في مكان واحد في وقت واحد. ولكن لما صعد إلى السماء صار في وسعه أن يكون بالروح القدس في كل مكان في آن واحد. وعلى هذا الأساس يستطيع الروح أن يعزي ويعزز ويقوي ويشدد المؤمنين في الضيق في وسط عالم معاد.
سادساً: الروح يسدد. بمعنى أنه يوجه خطوات المؤمنين في خط مشيئة الله. فالأنبياء في العهد القديم تكلّموا وعلّموا كما ألهمهم الروح، ولهذا قال بطرس الرسول "لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلّم بها رجال الله القديسون مسوقين من الروح القدس". وبالمعنى نفسه صرّح الرسول بولس قائلاً: "كل الكتاب موحى به من الله" (أي الله الروح) وقد دعاه في رسالته إلى أفسس (سيف الروح).
حتى المسيح نفسه "كان يقتاد بالروح" كما يقول البشير لوقا. وإن كان المسيح كإنسان بحاجة إلى قيادة الروح فكم بالحري نحن! ثم أليست قيادة الروح دليل كوننا أولاد الله؟ فإن "جميع الذين ينقادون بروح الله أولئك هم أبناء الله".
سابعاً: الروح يمجد. قال المسيح عن الروح المعزي: "ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويعطيكم". وهذا يعني أن عمل الروح القدس هو أن يظهر المسيح ويعلنه ولذلك لا يقدر أحد أن يعترف بسيادة المسيح إلا بمساعدة الروح. يقول الرسول بولس في الإصحاح 12 من رسالة كورنثوس الأولى: "ليس أحد يقدر أن يقول "يسوع رب" إلا بالروح القدس". وهل من الضروري أن يعترف المرء بربوبية المسيح شفاهاً؟ ألا يكفي الإيمان بالقلب؟ يجيب بولس في رسالة رومية قائلاً: "إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت. لأن القلب يؤمن به للبر والفم يعترف به للخلاص..".
قارئي الكريم: ليت الروح القدس يفتح بصيرتك لكي تعرف حقيقة الله من خلال المعلنات الإلهية لكي تقبل الإعلان بالإيمان. عندئذ فقط تبدأ تفهم أن الله واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد. وإلا فلن تقدر أن تعرف الله.
- عدد الزيارات: 5911