الفصل الثامن: أين أجد الحياة؟
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، وزوجتي وأنا على وشك القيام برحلة بالقطار تستغرق ثماني عشرة ساعة. وكنا ومعنا مئات المسافرين ننتظر السماح لنا بالدخول إلى القطار في محطة القديس لازار بباريس. وكان معظم الركاب من الشباب، من مختلف الدول الأوروبية، يأكلون ويشربون ويستلقون نصف نائمين، فتجاذبنا مع بعضهم أطراف الحديث، فوجدنا أنهم لم يجدوا بعد نوعية الحياة التي يفتشون عنها. واتَّجه فكري وفكر زوجتي إلى أعظم رفيق لنا في السفر، وهو الرب يسوع المسيح! ولما استمر الحديث انفتح لنا قلب بعض الشباب المغامرين المتعَبين الراغبين في الوصول إلى الحياة "الحقيقية" التي كان بعضهم يرجو أن يجدها في المدينة المجاورة، أو في صديق جديد، أو في حفلة قادمة. وكان خوفهم الأكبر هو عدوى المرض القاتل، الذي يسمّيه الأفريقيون "مرض الشخص النحيف" (فقدان المناعة) وهو مرض "الإيدز" الذي تعني الإصابة به حكم الموت!
وأعترف أن الدم هو السائل الذي يحمل مقوِّمات الحياة. كما يجب أن أعترف أني أخاف من منظر الدماء، وأذكر أني أردت التخلُّص من فوبيا (رُهاب) الدم، فأخذوني لأراقب إجراء عملية جراحية من غرفة مراقبة. وما أن تفجَّر الدم تحت مشرط الجراح حتى غمر العرق جسدي وابيضَّ لون وجهي، فنصحني الطبيب بأن أترك المكان. ولم أكن محتاجاً لأن يقنعني!
وبغضّ النظر عن مخاوفي، فإن الأطباء ينقلون الدم لكل من يُصاب بنزيف حاد لإنقاذ حياته وليسترد صحته. واليوم، بفضل التقدم العلمي يؤخذ دم شخص سليم ليُحقن في شرايين مريض مشرف على الموت فيمدُّه بالحياة.
ومن قبل الاكتشافات الطبية الحديثة أعلن الله أن: "نَفْسَ الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ" (لاويين 17:11). ويقول الدكتور برنارد: "في غرفة العمليات يعرف كل طبيب جرّاح أن الدم هو الحياة. والاثنان متلازمان، فمن يفقد دمه يفقد حياته".
ومع أن معظم الناس يدركون أن دم بعض المرضى ملوَّث بفيروس الإيدز، إلا أن كثيرين لا يدركون أن هناك مرضاً آخر أصاب كل البشر، لأن الله "صَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الْأَرْضِ" (أعمال 17:26). وقد أثَّر هذا التلوُّث على كل البشر. ويقول الكتاب المقدس إن هذا يرجع إلى آدم أب الجنس البشري (1كورنثوس 15:45). فعندما أخطأ الإنسان الأول أخطأت ذريته من كل جنس ولون في كل الأرض (1كورنثوس 15:22). وكما يحمل فيروس الإيدز الموت عن طريق الدم إلى كل الجسد، تحمل الخطية الموت للجنس البشري من جيل إلى جيل. ولو أن هذا التلوُّث لم يحدث لمَضَى كل الناس إلى السماء دون أن يمرّوا بوادي الألم والموت.
ولكن كم نشكر الله أنه بفضل دم المسيح أمكن أن تسري في شرايين البشر دماء جديدة تمنح الحياة، فقد بشَّر الملاك جبرائيل العذراء مريم أنها ستحبل بابن تسميه "يسوع"" لأن "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُّوَةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللّه" (لوقا 1:35). وجرت المعجزة عندما حبلت العذراء من الروح القدس. وهذا النوع من الحبَل يوقِف انتقال الخطية بالوراثة إلى الوليد، فكان دم المسيح نقياً لا أثر للتلوُّث فيه. ولهذا يمكن أن يمنحنا دم المسيح الحياة، لأن المسيح من عند الله.
والدم البشري معقَّد التركيب، وفي كل يوم يكتشف الأطباء الجديد عنه. ولكن الحقيقة الأساسية القديمة المعروفة عنه أنه ينقّي الجسد، ويمنح الحياة، ويقاوم المرض. ومن الرائع أن تعرف أن الله دبَّر لك دماً يُجري معجزات فائقة، وهو متوافر لكل من يفتش عن "الحياة الحقيقية". ويمنح دم المسيح للخاطئ التائب تطهيراً من الخطية، ويهب لموتى الخطية حياة. أما للأحياء روحياً فإن دم المسيح يحميهم من هجوم الشيطان. عن هذا الدم الكريم نقرأ: "عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لَا بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الْآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلَا عَيْبٍ وَلَا دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ" (1بطرس 1:18 و19).
قوة الدم المطهِّرة
منذ وقت قريب حملت الأخبار لنا أن إحدى الشركات الجشعة في الربح تغاضت عن بعض الاحتياطات الصحية، فاستخدمت خزاناً ينقل سوائل سامة إلى خارج المصنع، وفي إعادته شُحن بسوائل تدخل في تصنيع نوع من الطعام المحفوظ. وتسبَّب هذا الطمع والاستهتار في مشاكل صحية لكثيرين.
أما في الجسد البشري فقد خلق الله نظاماً معجزياً ينقل الغذاء إلى الخلايا، ويقوم بتنقيتها من السموم في الوقت نفسه، دون أن تؤثر السموم على الغذاء بشيء. مع أن الخلية تتغذى من شعيرات دموية سُمكها سُمك شعرة! وإذا لم تتنقَّ الخلايا من السموم يمرض الإنسان ويموت.
وهذا هو النظام الذي اتَّبعه الله ليمحو وجود الخطية السام والمميت من حياتنا. فبدم المسيح الكريم وحده يتحقق لنا هذا "إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (1يوحنا 1:7). وقد قال الله إنه لا يوجد طريق آخر للنجاة من الخطية غير سفك الدم (عبرانيين 9:22).
الدم قوة تعطي الحياة
يحمل الدم الماء والغذاء إلى الجسد كله، فيحفظ فيه الحياة. ولو لم يقُم الدم بهذه الوظيفة لَمات الجسد. وواضح أن الحياة هي في الدم. وقد أدهش المسيح تلاميذه وهو يكلمهم عن دمه فقال: "إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الْإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ، لِأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ" (يوحنا 6:53-55). ثم أوضح المسيح هذا بقوله: "مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ" (يوحنا 6:56). فما أروع أن نعرف أن دم المسيح الذي يفدي الخطاة من خطاياهم هو المصدر الحقيقي للحياة الروحية، ويمكن أن نشترك معه في حياته اعتماداً على دمه المسفوك، فكل من يشرب دمه يثبت فيه. وعندما تختبر قوة قيامة المسيح وحضوره الدائم معك، تشهد بافتخار: "المسيح الحي المقام يسكن الآن فيَّ". وكلما تناولنا الجسد والدم من مائدة العشاء الرباني نرفع شكرنا لله ونشهد له.
ويعطي دم المسيح المعجزي الحياة للمؤمن عندما يولد ثانية بقوة الروح القدس. فما أحوج كل من يبحث عن الحياة إلى دم المسيح الكريم الذي يعطي الحياة.
الدم قوة تحفظ
الدم يطهر الحياة ويعطي الحياة ويحفظ الحياة
ارتعب العالم كله بسبب "الطاعون البابوني" (أو: الطاعون الدُّبَلي) الذي تمَّ تشخيصه في الهند، فكانوا يطهِّرون كل طائرة تغادر الهند، كما كان بعض الركاب يُحجَزون مؤقتاً في المطار للفحص الطبي، لئلا يكونوا حاملين للمرض.
ويقوم الدم بدور رئيسي في صدّ هجوم الجراثيم الغريبة التي تهدد حياة الإنسان مهما كان نوعها، فيحمل للجسد مواد دفاعية مضادة للبكتيريا. وعندما يحدث مثل هذا الهجوم تقوم خلايا الدم البيضاء (ووظيفتها الأساسية دفاعية) بزيادة عددها وتأخذ وضع الدفاع.
وكم هو عظيم أن نعرف أن دم المسيح له نفس عمل الدم البشري، فهو يعطي الحياة ويحفظها، ويحمي المؤمن من مهاجمات إبليس المستمرة. وقد تنبأ المسيح عن المعركة بين إبليس وأولاد الله عند نهاية العالم فقال: "وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْحَمَلِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ، وَلَمْ يُحِبُّوا حَيَاتَهُمْ حَتَّى الْمَوْتِ" (رؤيا 12:11). ويمكنك أن تهزم الهجوم الشيطاني بقوة دم المسيح الحافظة.
وقد تنبأ الوحي بنصرة المسيح على الشيطان بعد أن أغوى آدم وحواء، فقال إن نسل المرأة يسحق رأس الحية "وَأَضَعُ عَدَاوَةً... بَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ" (تكوين 3:15). فالحية تسحق عقب المسيح المخلّص المنتظَر، ولكنه يسحق رأسها. والمسيح هو نسل المرأة، الذي سفك دمه الكريم "لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ" (عبرانيين 2:14).
ولقد وجد كثيرون في المسيح مصدر الحياة الحقيقية. ومثال لذلك أني وزوجتي في إحدى زياراتنا لأوغندا التقينا بمئة أوغندي واثقين أنهم وجدوا هذه الحياة ، واكتشفوا في قوة دم المسيح تطهير القلب، ونعمة الحياة، وقوة مقاومة الشيطان. ومع أن المسؤولين في سفارة كينيا حذَّرونا في ذلك الوقت من خطورة السفر إلى أوغندا، إلا أن روح الله وضع على قلبينا أن نزورها، لأننا كنا مرتبطَين بإقامة اجتماع لبعض قسوس أوغندا وزوجاتهم، كما أن الروح القدس رتَّب رحلة عودتنا سالمين، فقد كانت الطائرة التي أقلَّتنا في الخروج من "عينتيبي" آخر رحلة تغادر مطارها قبل انقلاب عسكري.
وحالما وصلنا إلى مطار عينتيبي لمسنا أحاسيس التوتر والقلق، وكانت الفوضى والقمامة في كل مكان، ونقلتنا إحدى السيارات القليلة الموجودة من المطار إلى مكان الاجتماع على طريق ملأته القنابل بالحُفر. وفي الطريق أوقفنا بعض الجنود الذين يحملون رشاشات، ولكنهم تركونا نمضي لأن سائق سيارتنا من قبيلتهم. ولما وصلنا إلى مكان الاجتماع وجدناه مظلماً قذراً، ويقع في منطقة ترعبها المخاوف. ولكن ما أن وصل القسوس وزوجاتهم حتى نسينا المتاعب، وشعرنا بحضور مجد الرب في المكان. وستظل ذكريات ذلك الاجتماع محفورة في قلوبنا كاختبار روحي رفيع.
كان أولئك القسوس وزوجاتهم يجلسون على مقاعد خشبية غير مريحة مدة ثماني ساعات يومياً ليستمعوا إلينا نشرح لهم كلمة الله، وزوجتي تكتب ملخَّص كل درس على سبورة قديمة، وهم يدوِّنون ملاحظاتهم على أوراقهم. وفجأة انفتح الباب ودخل جندي مخمور يحمل مسدساً وجَّه فوهته إلى قلب زوجتي، فقالت بهدوء: "دعونا نصلي من أجل هذا الرجل العزيز ليتعرَّف على المسيح". وبعد دقائق بدت لي دهوراً قال لي المترجم: "لا أكاد أصدق أن هذا الجندي المخمور يقول إنه يريد أن يعرف إله هذه المرأة!". وبينما المترجم يقول هذا رأيت منظراً لا يُنسى، لا أعرف له سبباً. هل دفع ملاكٌ هذا الجندي ليركع على ركبتيه أمام جلال حضور الله المقدس في المكان؟ وهو الأمر الذي لم يكن الجندي المخمور يملك له دفعاً. أو هل ركع تواضعاً ليعبِّر لله عن شدة حاجته للتوبة. لا أدري. كل ما أدريه أنه أنزل فوهة مسدسه، ثم ألقاه على الأرض، وركع.
ولم يكن الوقت مناسباً لإلقاء الدرس الديني، فقالت زوجتي للجندي الراكع: "اتلُ هذه الصلاة ورائي" وقادته خطوة بعد خطوة إلى قدمي المصلوب، مخلِّص هذا الخاطئ. فوجد نبع الحياة الحقيقية في دم المسيح.
وأذكر هذا الاختبار هنا لأروي ما جرى بعده، فقد كان بعض الموجودين يكرهون هذا الجندي وأمثاله لسبب أو لآخر. لقد كان سبب تهديد لحياة بعضهم، وكان أحد زملائه قد بتر إصبع أحد القسوس بطلقة مسدس حاول بها أن يقتله. ولكن لأن أولئك القسوس كانوا يحبون الرب من كل قلوبهم، اجتمعوا حول الجندي الراكع وأحاطوه بصلواتهم لأنه أخٌ جديد لهم في المسيح. وبدون مصاحبة موسيقى رنم الإخوة الأفريقيون:
في الصليب في الصليب
راحتي بل فخري
ولو أن قادة العالم رأوا ما جرى في ذلك اليوم لوجدوا الحل الصحيح للمشاكل العالمية والخلافات القَبَلية.
"يُصَالِح بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى الْأَرْضِ أَمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً أَجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ، فِي الْأَعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ، قَدْ صَالَحَكُمُ الْآنَ" (كولوسي 1:20 و21).
ولن ينجو من الدينونة القادمة إلا الذين صولحوا مع الله بدم المسيح. وعندما يأتي المسيح إلى أرضنا في يوم الدينونة الرهيب سنراه "مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الْأَرْبَابِ.. مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ "كَلِمَةَ اللّهِ" (رؤيا 19:16 و13).
وقفة للتفكير
هل ترغب فعلاً في الحياة الحقيقية، التي وصفها المسيح بقوله: "أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ" (يوحنا 10:10)؟
بحسب الكتاب المقدس: أين توجد حياة الجسد البشري؟ (لاويين 17:11).
ما هو المعنى الأبدي لدم المسيح الثمين بالنسبة لك؟
هل تثق في قوة تطهيره؟
هل تثق في قوته التي تعطي الحياة؟
هل تثق في قوته الحافظة؟
قال المسيح: "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الْأَبَدِ" (يوحنا 11:25 و26).
"لا يمكن أن ندرك بالكلمات وحدها كمال لوحة فنان، وبريق وجه إنسان، وجلال منظر ريفي، فإننا نحتاج أن نراها. وكما أن النظر بالعين يجعل الإنسان يختبر عملياً جمال خليقة الله، هكذا الرؤية الروحية تنقل حقيقة حضور الله وقوته ومحبته من نحو النفس الإنسانية" (ر. أ. ب.)
- عدد الزيارات: 3511