أخلاقيات التكنولوجيا
من أهمّ مظاهر القرن العشرين هو تطبيق العلوم الطبيعيّة في جميع نواحي الحياة البشريّة. وليس من إنسان مفكّر ينكر مدى تأثير التكنولوجيا أي تطبيق المبادئ العلميّة وتسخيرها للقيام بوظائف تسهّل حياة الإنسان وتمكّنه من التغلّب على العقبات التي كانت تعترض سبيله وتمنعه من تحقيق العديد من أحلامه. مثلاً لم يعرف أجدادنا الذين عاشوا قبل نحو مئة سنة أنّ الإنسان سيستطيع أن يتكلّم مع قرينه الإنسان عبر القارات بواسطة التلفون أو الراديو أو أنه سيتمكن من الطيران بسرعة الصوت أو الغوص تحت مياه البحار أو المحيطات! تمّت هذه الأمور الباهرة في القرن العشرين. كل شيء في حياتنا المعاصرة محاط بثمار العلوم الطبيعية وبمنتوجات التقنية أو التكنولوجيا.
ومع استفادتنا من التقدم العلمي الباهر وخاصة من تطبيقه في التكنولوجيا إلا أنه يجدر بنا أن نسأل هذا السؤال المصيري: هل تسير أمور العلم على أساس يفوق العلم أو يعلو عليه أم هل تجري أمور العلم على أساس علمي بحت؟ وماذا أقصد بعبارة: أساس علمي بحت؟ وهل هناك أخلاقيات للتكنولوجيا؟
وما ورد في الفصل السابق بخصوص الاقتصاد ووجوب ربطه بالأخلاقيات أذكره الآن في مضمار وجوب ربط التكنولوجيا بالأخلاقيات. فالعلم والتقنية ليسا من أجل العلم والتقنية! يجب أن توضع هذه الأمور في خدمة الإنسان ورفاهيته لا أن تستعبده وتجعل منه آلة صمّاء. وها هي بعض الأمثلة التي أوردها لإزالة أي غموض ربما يكون قد طرأ على كلماتي هذه:
كان الإنسان في القديم يستهلك المقدار القليل من الطاقة. فقد لجأ إلى استعمال الطاقة المستقاة من الماء والهواء والنار. لكن الإنسان المعاصر صار يتّكل على الطاقة الكهربائيّة في أكثر نواحي حياته. بدون الكهرباء تختفي الحضارة كما نعرفها الآن. ولكن كيف نولّد الكهرباء؟ إمّا بالاتكال على الطاقة المائيّة أو الفحميّة أو البتروليّة أو النوويّة.
لنكتفي بالكلام عن توليد الكهرباء بواسطة الطاقة النوويّة. يجري هذا الأمر في العديد من بلاد العام ومن البديهي أن ازدياد الحاجة إلى الكهرباء يجعل من توليدها نووياً أمراً لا مفرّ منه. ولكن ماذا إن كان منتوج الطاقة النووية الثانوي (أي المواد المشعّة) يشكّل خطراً جسيماً على الناس ليس في أيامنا هذه فقط بل في السنين القادمة؟ كنا نجهل في أواسط هذا القرن علاقة الإشعاع النووي بمرض السرطان. لكننا لم نعد نجهل ذلك الآن. ألا نرى في هذا الحقل العلمي والتقني موضوعاً يتجاوز العلم والتقنية؟ ألا نجابه وجود مشكلة أخلاقية لا يمكن التهرّب منها ونحن نبحث في توليد الكهرباء من الطاقة النوويّة؟
لنذكر مثلاً آخر. يتّكل الإنسان في حياته على البرادات وآلات تكييف الهواء التي تمكّنه من حفظ المواد الغذائية لمدّة طويلة وعلى تلطيف الجوّ المحيط به. ويستعمل في هذه الحالات غازاً نادراً للحصول على النتيجة المبتغاة أي التبريد. لاحظ بعض العلماء الباحثين في مناخ الكرة الأرضية وتقلبات الجوّ وتكاثر الجفاف، وجود علاقة مباشرة بين استعمال هذا الغاز النادر والفجوة التي تكوّنت في طبقة الأوزون المحيطة بأرضنا والتي تمنع الإشعاعات الضارّة الآتية إلينا من الشمس من الوصول إلى سطح الأرض.
وقد يقول قائل: ما نجابهه هو مشكلة تقنية. وأنا أسايرك على رأيك ولكنني أزيد قائلاً: نعم تجابهنا مشكلة تكنولوجية ذات أبعاد هائلة ولكنها ليست تكنولوجية بحتة. هناك أيضاً موضوع الأخلاقيات التي يجب أن تصاحب العلوم والتكنولوجيا. فنحن ما إن نكتشف وجود خطر على صحة الإنسان أو على مستقبل البشرية جمعاء ينبثق عن مصدر تكنولوجي حتى يترتب علينا أن نذكّر العلماء أنّه من واجبهم النظر إلى جميع أعمالهم واختباراتهم من وجهة نظر أخلاقية. لا يجوز لهم أن ينادوا بالطلاق بين العلم والأخلاق.
وفي النهاية لا بدّ لنا من الإقرار أننا عندما نتكلم عن أخلاقيات التكنولوجيا أو أخلاقيات الاقتصاد علينا أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إنّ الأخلاقيات ذاتها يجب أن توضع ضمن نطاق يعترف بسلطان الله على كل نواحي الحياة والكون. ليس الإنسان بمالك للدنيا ولا بمسير لأمورها وكأنه سيد العالم المطلق. الإنسان هو وكيل استأمنه الله على جميع موارد ومقدّرات الأرض ليعمل فيها بكل مسؤولية. فإن أساء الإنسان استعمال وكالته يجلب على نفسه وعلى نسله أخطاراً عديدة. فحاجتنا القصوى إذاً أن ننادي بأهمية الاعتراف بالله وبشريعته وبعمله الخلاصي الجبار في المسيح يسوع ولصالح البشرية المعذبة. ومتى قمنا بذلك فإننا نرى العلاقة الوثيقة بين التكنولوجيا والأخلاقيات، لا الأخلاقيات المبنية على فلسفة منكرة لله، بل على أخلاقيات تنبع من الإيمان الحيّ بالله القدير.
- عدد الزيارات: 3613