حاجة الإنسان المعاصر
الإنسان المعاصر مريض. لقد أضحت حياته عبارة عن مشكلة صعبة الحل وما أكثر الأطباء الذين انبروا لمعالجة الإنسان المعاصر المريض!
وقد كتب أحدهم منذ مدة قصيرة " ان الإنسان المعاصر في حاجة ماسة إلى نظرة جديدة في الإنسان وفي التاريخ، تتخطى آفاق التاريخ القديم " وهذا يعني أن نظرة الإنسان القديمة في الإنسان وفي التاريخ لم تعد صالحة لعالم اليوم، لعالم الثلث الأخير من قرن النور والإشعاع.
ولابد لنا من الاشارة في بادىء الأمر إلى بروز عدة ظروف جديدة تحيط بحياة الإنسان المعاصر وان هذه الظروف تزيد من حدة أزمته أو مرضه أو مشكلته. وها اننا نورد ذكرها بصورة سريعة قبل الشروع في الكلام عن حاجة الإنسان المعاصر أو النظرة التي يجب عليه أن يتخذها تجاه ذاته وتاريخه.
عالمنا اليوم مكتظ بالسكان أكثر من أي عصر مضى. يقدر البعض بأن سكان العالم كان في أيام السيد المسيح نحو مئتين وخمسين مليون نسمة. أما اليوم فان عدد سكان الأرض قد قارب الثلاثة مليارات ونصف أي ما يعادل أربعة عشر ضعف ما كان عليه منذ ألفي سنة. كثرة السكان هي إذن عامل جديد من عوامل الحياة المعاصرة.
عالمنا اليوم قد اختبر سرعة المواصلات بشكل لم يعرف في الماضي. حتى في مطلع هذا القرن لم يكن الإنسان يسافر بسرعة تكثر أو تزيد على الخمسين كيلومتر في الساعة. أما اليوم فان طائرات الركاب النفاثة تسير بسرعة ألف كيلومتر في الساعة وهناك طائرات تطير فوق سرعة الصوت! في مطلع هذا القرن لم يكن عالمنا متقاربا بواسطة محطات إذاعية ولم يكن بالامكان إذاعة أحاديث أو أخبار أو موسيقى من مكان واحد إلى ألوف من الناس.
عالمنا اليوم عمت فيه الثقافة أكثر من أي عصر مضى. ما أكثر الذين صار بوسعهم القراءة والكتابة ليس فقط في لغتهم الأصلية بل أيضاً بلغة أو لغات أجنبية! هذا عامل جديد وهام للغاية في عالم اليوم.
ونورد أخيرا ذكر تعدد النظريات الحياتية والايديولوجيات التي تعد الناس بإمكانيتها على حل مشاكلهم وعلى تقريب موعد نشؤ نعيم أرضي يعم فيه السلام والوئام. ونظرا لسرعة المواصلات ولانتشار الثقافة فان هذه النظريات انتشرت بسرعة لم تكن معروفة في أيام الماضي.
وهنا لابد لنا من القول بعد سردنا للظروف الجديدة المحيطة بإنسان اليوم أو بالأحري لبعض هذه الظروف المشكلة لعوامل جديدة في حياة إنسان اليوم، أن الإنسان لا يزال كائنا يشابه جذريا وأساسيا إنسان الماضي، وأوجه الشبه هذه هي قوية وملازمة لأي إنسان أينما كان ومهما كانت ظروفه الحياتية. ولذلك يجب علينا ألا نتجاهل هذه العوامل الدائمة والمصاحبة لحياة الإنسان أو لتكوينه، لئلا نعطي أهمية أكثر من اللازم للعوامل الجديدة المؤثرة على حياة الإنسان في أيامنا هذه.
وهنا نأتي على سرد بعض الأمور الهامة الملازمة دائما للشخصية البشرية والتي لا تتغير من جيل إلى آخر.
أولاً : الإنسان مخلوق أو كائن يبحث عن معنى لحياته خارج ذاته أو نفسه. مهما كان الإنسان أو مهما تنوعت ظروفه الحياتية، يبقى كائنا أو مخلوقا دينيا بمعنى انه يتوق إلى سكب حياته في سبيل هدف أعلى ذى صفة مطلقة. فهو يؤمن بالله الواحد الحقيقي أو بآلهة متعددة من طراز قديم أو بآلهة أو صنميات عصرية. من المستحيل للإنسان أن يحيا في عالم لا يزيد عن حجم ذاتيته الصغيرة.
ثانيا : يتمتع الإنسان، أن كان إنسان التاريخ القديم أو التاريخ المعاصر بصفات ومزايا نبيلة وخلاقة وها أن التراث الحضارى الضخم الذي يشاهد في جميع أنحاء المعمورة وكذلك منجزات إنسان القرن العشرين، جميع هذه تدل على أن الإنسان كائن مدهش وبديع.
ثالثاً : في الإنسان نـزعة شريرة مخيفة وعالم التاريخ القديم وعالم اليوم يشهدان على ذلك فالإنسان ليس إذن بمخلوق أو كائن نبيل وخلاق وحسب بل انه شرير ومخيف للغاية! وامكانية الإنسان في حقل الشر هي هائلة في أيامنا هذه حتى انه من الصعب تصورها. ما أكثر المؤلفات والروايات والأفلام السنمائية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية والتي جعلت مواضيعها الشر الكامن في قلب الإنسان!
نعود الآن إلى التأمل في ما اقتبسناه في بادىء هذا البحث : أن الإنسان المعاصر في حاجة ماسة إلى نظرة جديدة في الإنسان والتاريخ تتخطى آفاق التاريخ القديم! أن كنا نعني انه علينا أخذ العوامل الجديدة المكونة لحضارة اليوم بعين الاعتبار كازدياد عدد سكان الأرض وسرعة المواصلات وشمول الثقافة وتعدد النظريات الحياتية المتنافسة، وانه من واجبنا تعريف حاجة الإنسان اليوم وهو الإنسان المريض والمعذب، فإنه بالامكان القول آنئذ بأننا في حاجة إلى نظرة جديدة في الإنسان وفي التاريخ.
ولكن أن كنا قد أتينا على ذكر الحاجة إلى نظرة جديدة في الإنسان والتاريخ نظرة تتجاهل تكوين الإنسان الأساسي أي كونه مخلوقا دينيا ومتمتعا في نفس الوقت بصفات حميدة وبميول شريرة للغاية فاننا لا نكون قد اقتربنا بطلقا من ايجاد حل نافع لحالة الإنسان المعاصر المحزنة والتعيسة. عالمنا اليوم ليس بحاجة إلى أية نظرية رومانطيقية للإنسان، نحن لا نستطيع أن نقبل أية نظرة تفاؤلية في الإنسان لأننا قد شاهدنا في عصرنا هذا أبشع أنواع الظلم والطغيان والقتل الجماعي. مجرى التاريخ لا يخلص لا الإنسان ولا الحياة البشرية بل انه يظهر في كثير من الأحيان وكأنه سيل عارم يطغو على كل شيء ويجر كل شيء إلى محيط اليأس واللا معنى.
نعم هناك عدة عوامل جديدة يجب عدم التعامي عنها ونحن نبحث عن حاجة الإنسان المعاصر ولكننا لن نكون من الناجحين ولا من العاملين على شفاء الإنسان من أمراضه المعاصرة أن نسينا الله وبرنامجه الفعال لإنقاذ الإنسان. وهذا البرنامج الخلاصي أتمه المسيح ضمن عالمنا هذا عندما حل مشكلة الإنسان الجذرية أي مشكلة الشر العالق بصميم الحياة البشرية وذلك بموته الكفاري على الصليب وبقيامته الجبارة من الأموات. حاجة الإنسان المعاصر كما كانت حاجة الإنسان القديم هي قبول دواء الله الفعال المقدم مجانا في المسيح المخلص.
- عدد الزيارات: 2791