العلم المعاصر والفلسفة الدهرية
لابد أن القراء الذين تابعوا هذه التأملات قد لاحظوا مرارا بأننا قد ذكرنا تأثر العلم المعاصر بالفلسفة الدهرية وكنا نشير دوما إلى أننا لسنا بأعداء للعلم المعاصر ولا للتقنية المعاصرة (أي تطبيق العلوم في سائر نواحي الحياة). بل نشكر الله ونحمده من أجل جميع المنافع التي حصلنا عليها والتي هي ثمار العلم المعاصر. ولكننا كنا نشدد في كل مناسبة بأنه مع سرورنا وابتهاجنا بنتائج العلوم وثمارها التقنية، الا أننا نرفض بكل قوة وبصورة نهائية الفلسفة الدهرية المصاحبة – في كثير من الاحيان – للعلوم المعاصرة.
ينظر العديدون من العلماء إلى موضوع العلوم الطبيعية من منظار يدعونه باسم الموضوعية. فيقولون لنا : أن الموضوعية تتطلب عدم السماح للمعتقد أو الإيمان الديني بأن يلعب أي دور في الابحاث والبرامج العلمية – النظرية منها والعملية. وبكلمة أخرى يبني هؤلاء العلماء سورا قويا يضعون على جانب منه العلم وعلى الجانب الاخر الإيمان الديني أو عدم الإيمان. بهذه الوسيلة وبهذه الطريقة تحفظ موضوعية ونـزاهة العلوم! هكذا يقول لنا العلماء الذين اعتنقوا الدهرية كفلسفة حياتية.
ومن الناحية العملية والفعلية فان الموضوعية تضيع بل وتتبخر بصورة تامة لأنه من المستحيل للإنسان بأن يترك معتقد، خارج أسوار المختبر أو المصنع أو مركز الابحاث.
فالإنسان اما أن يعتقد بوجود الله الخالق أولاً يعتقد بوجوده. فان كان يؤمن بوجوده فان وجهة نظره من الأمور العلمية تكون مختلفة – فلسفيا وعقائديا – من وجهة نظر ذلك الذي لا يؤمن الا بالإنسان.
وكثيراً ما يحدث أن الذي يؤمن بالله ينسى الله حالما يبدأ بأبحاثه العلمية وذلك لأنه اعتاد القيام بذلك نظرا للازدواجية التي اعتنقها أثناء أيام دراساته العلمية. ونعني بالازدواجية الاعتقاد النظرى بأمرين متناقضين أو مضادين أو مختلفين جذريا والابقاء على كل منهما في ناحية مختلفة من الحياة العقلية والنفسية والعاطفية. فمن سقط فريسة للازدواجية المعاصرة وكان منذ نعومة أظفاره قد عاش في بيئة مؤمنة بالله الخالق والمسيطر على سائر نواحي الحياة يأتي بنفسه إلى نوع من التعايش مع فلسفة دهرية هي مبدئيا معادية لله. هكذا إنسان يؤمن بالله وقد يرفع إلى الله دعاءه وبصورة منظمة أو غير منظمة ويعتقد بالحياة بعد الموت وبيوم القيامة وبوجود ملائكة وشياطين الخ. ولكن جميع هذه المعتقدات تترك خارج مكان البحث والتنقيب والتنظيم والتخطيط. فان العلم المعاصر لا يسمح لله بأن يتدخل في شؤونه. العلم هو للإنسان فقط! هذا هو لسان حال الازدواجية المعاصرة التي ليست هي بالحقيقة علمية بل نظرة فلسفية لا أكثر ولا أقل!
ومن المهم أن نلاحظ أن الازدواجية لا تبقى على حالة واحدة لان الإنسان وخاصة إنسان اليوم هو قلق يعيش لا في جو الجمود والتجفصن بل في جو ديناميكي متغير ومتقلب. وهكذا يحدث أن النظرة الفلسفية الدهرية المطلية بطلاء العلم تجبر الكثيرين من الناس على الارتداد عن الإيمان وتعطيهم كبديل عنه صنما من طراز جديد.
مثلاً يشاهد الباحث في عالم الطبيعة والذي اعتنق أيضاً الفلسفة الدهرية التي تحت شعار الموضوعية تكون قد طردت الإيمان بالله من عقل الإنسان، يشاهد وجهاً معينا من الحقيقة فيسحر منه إلى هكذا درجة حتى انه يسبغ عليه صفة المطلق. وهذا نوع من تأليه جانب واحد أو وجه واحد من الحقيقة. فالنظام الرائع الذي نشاهده في هذا الكون يؤله عندما ننسى واضع هذا النظام أي الله تعالى اسمه. وإذ ذاك تفسر سائر الأمور الطبيعية من وجهة نظر فلسفة حتمية. ونحن نقر بأنه لا مفر من الوقوع في الحتمية عندما نعترف فقط بالنظام الرائع الذي يرى في هذا العالم أي عالم الطبيعة أو الخليقة على الاصح.
لا يجرى الافلات والتحرر من الحتمية الا عندما نرى أكثر من النظام أي عندما نعترف بأن الله هو موجد هذا النظام وقد شاء الله تعالى في مناسبات خاصة ومنذ فجر التاريخ بأن قام بأمور خارقة لنظام الطبيعة أو الخليقة والتي ندعوها عادة باسم المعجزات. فالله هو على كل شيء قدير وهو يسير الطبيعة بمقتضى نظامه البديع وأحيانا حسب مشيئته العليا يجري أمورا لا نقدر أن نفسرها بل نقول انها عمل خاص لله. أما الذين لا يؤمنون بسلطة الله على الطبيعة فإنهم ينكرون حتى امكانية المعجزات ويقولون لنا : لا تمزجوا بين الدين والعلم!
وقد تضايق العديدون من المفكرين من الحتمية المسيطرة على النظرية العلمية المعاصرة ونادوا بحرية الإنسان المطلقة وغير المقيدة من قبل أية قيود إلهية المصدر. وهذا يعني أنهم وإذ رأوا وجهاً آخر من الحقيقة ونسوا بقية أو جهها أعطوا ذلك الوجه صفة مطلقة أي جعلوا من الحرية صنما. وهذه الصنمية المعاصرة تنادى بنسبية سائر القيم الروحية والدينية وتجعل من العقل البشرى المرجع الوحيد للمعرفة وللحق.
نحن نريد أن نكون علميين في أيامنا هذه أي أن نأخذ سائر أو جه الحقيقة بعين الاعتبار، فماذا علينا الاختيار؟ هل أمامنا الاختيار بين الحتمية أو الحرية المطلقة؟ هل هناك اختيار ثالث؟ نعم هناك الاعتراف العقلي والقلبي والحياتي بالله الخالق المعطي لكل شيء معناه ومكانه في الوجود. هناك الاعتراف بالخلل الجذرى في الإنسان الخلل الناتج عن ثورة الإنسان على الله في فجر التاريخ. هناك الاعتراف بمسيح الله الذي جاء ليشفينا من كل ازدواجية ونسبية وليوحد شخصيتنا البشرية ويعطينا الحرية الحقيقية تلك الحرية التي تساعدنا على العيش بكل سلام ووئام في عالم الله.
" 1أَمْثَالُ سُلَيْمَانَ الابن الْحَكِيمُ يَسُرُّ أَبَاهُ وَالابن الْجَاهِلُ حُزْنُ أُمِّهِ. 2كُنُوزُ الشَّرِّ لاَ تَنْفَعُ أَمَّا الْبِرُّ فَيُنَجِّي مِنَ الْمَوْتِ. 3اَلرَّبُّ لاَ يُجِيعُ نَفْسَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ يَدْفَعُ هو ى الأَشْرَارِ. 4اَلْعَامِلُ بِيَدٍ رَخْوَةٍ يَفْتَقِرُ أَمَّا يَدُ الْمُجْتَهِدِينَ فَتُغْنِي. 5مَنْ يَجْمَعُ فِي الصَّيْفِ فهو ابن عَاقِلٌ وَمَنْ يَنَامُ فِي الْحَصَادِ فهو ابن مُخْزٍ. 6بَرَكَاتٌ عَلَى رَأْسِ الصِّدِّيقِ أَمَّا فَمُ الأَشْرَارِ فَيَغْشَاهُ ظُلْمٌ. 7ذِكْرُ الصِّدِّيقِ لِلْبَرَكَةِ وَاسم الأَشْرَارِ يَنْخَرُ. 8حَكِيمُ الْقَلْبِ يَقْبَلُ الْوَصَايا وَغَبِيُّ الشَّفَتَيْنِ يُصْرَعُ. 9مَنْ يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَةِ يَسْلُكُ بِالأَمَانِ وَمَنْ يُعَوِّجُ طُرُقَهُ يُعَرَّفُ. 10مَنْ يَغْمِزُ بِالْعَيْنِ يُسَبِّبُ حُزْناً وَالْغَبِيُّ الشَّفَتَيْنِ يُصْرَعُ. 11فَمُ الصِّدِّيقِ يَنْبُوعُ حَيَاةٍ وَفَمُ الأَشْرَارِ يَغْشَاهُ ظُلْمٌ "
أمثال سليمان الحكيم 10 : 1-11
- عدد الزيارات: 2589