سر التألم -11
لقد وصلنا الآن إلى البحث الأخير في سر التألم أو الألم ونرجوأن تكون هذه التأملات قد أفادت القراء الاعزاء! وسنخصص هذا البحث الأخير لتلخيص ما كنا قد وصلنا اليه في الدراسات الماضية راجين بأن نكون جميعنا قد كوننا المفهوم الصحيح لموضوع يعد من أخطر المواضيع التي تجابه الإنسان المعاصر.
عندما أبتدأنا في بحثنا هذا قلنا أننا نقوم به من وجهة نظر الإيمان التام بالله القادر على كل شيء الذي هو أيضاً عادل وصالح. هذا المعتقد هو نقطة انطلاقنا ولذلك نحن ننبذ بديهيا كل نظرية أو رأي أو فكر يتعأرض مع الإيمان التام والكامل بالله وبعدله وبصلاحه وقوته التامة وبسيطرته على سائر مقدرات الحياة.
ومع أننا نعرف هذه الأمور معرفة عقلية ومع أننا نقر بقوة الله اللامحدودة وبعدله وبصلاحه الا أننا في كثير من الاحيان لا نمتنع عن التساؤل : لماذا حدث هذا الأمر المحزن لي؟ لماذا سمح الله لهذه الفاجعة بأن تنـزل علي؟ لماذا سمح الله لهذه الكارثة الهائلة بأن تأتي علينا في هذه البقعة المعينة من الأرض؟ لماذا؟ وعندما نسأل هكذا أسئلة فأن ذلك لدليل على عدم نضوج إيماننا. فنحن نعلم أو يجب علينا أن نعلم أن إيماننا بالله القادر على كل شيء لا يسمح لنا بأن نظن – ولا لو هلة واحدة – بأن زمام الأمور قد فلت من يده تعالى. عوضا عن أن نسأل : لماذا؟ على كل واحد منا أن يقول : لست أعلم لماذا حدث لي هذا الشيء المحزن. أنا لا أعرف السبب، ولكن الله يعلم وهذا يكفيني. الله يعلم وقد سمح بذلك وهذا يكفيني معرفته. ليس الله بملزم لكي يعطينا أجوبة على أسئلتنا، ولكنه تعالى يتطلب منا أن نضع إيماننا موضوع التنفيذ في حياتنا اليومية. وإذ نقوم بذلك فلابد لنا من الوصول إلى الموقف الحميد من جميع المشاكل التي تعترضنا ولاسيما تلك التي تتعلق بآلام وعذابات الحياة.
ومن المهم الملاحظة بأن الإنسان المتمتع بإيمان حي وفعال أنه لدى تعرضه لازمات الحياة الشديدة يتقوى إيمانه. فمن أهم مزايا الإيمان القويم هو أنه يساعدنا لنبقى أمناء لله حتى عندما لا نستطيع فهم أي شيء من الأمور المحزنة والمؤلمة التي تحدث لنا. إذا ما منفعة الكلام عن الإيمان أن لم يكن المؤمن أمينا لله أي متشبثا بكل ما أو حي به الله؟
فلنذكر جيدا أيها القراء الاعزاء أن الله يسيطر على جميع أمور الكون وأن عنايته شاملة لكل شيء. قد يسهل لنا الكلام بهذه الصورة عندما تكون الحياة خالية من المشاكل والمتاعب وعندما تكون طرقنا مفروشة بالورود والرياحين. ولكنه يجب علينا أن نقر ونشهد بإيماننا بالعناية الإلهية حتى في أحلك ساعات التاريخ، أكان ذلك بصورة فردية شخصية أو بصورة جماعية.
لنأخذ مثلاً شخصية الرسول بولس الذي عمل من أجل نشر رسالة السلام والمحبة والمصالحة مع الله في القرن الأول من الميلاد. أن رسول المسيح تعذب أكثر من العديدين من الناس في أيامه. وقد اضطهد من قبل بني جنسه الذين كان قد رفضوا رسالة الإنجيل التحريرية والفدائية. وكذلك اضطهد بولس الرسول من قبل السلطات الرومانية الحاكمة والتي كانت تسيطر على جميع بلاد حوض البحر الابيض المتوسط. وتعرض أيضاً الرسول لاضطهادات البعض من أهل الإيمان الذين كانوا قد أساؤوا فهم طبيعة الرسالة الخلاصية والذين أرادوا دفع الحركة الإنجيلية إلى الوراء. لقد ذاق الرسول العذابات الشديدة التي قلما نذوقها اليوم وها انه يصفها بهذه الكلمات المؤثرة :
" 3وَلَسْنَا نَجْعَلُ عَثْرَةً فِي شَيْءٍ لِئَلاَّ تُلاَمَ الْخِدْمَة (أي خدمته في نشر رسالة الإنجيل التحريرية).. 4بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ اللهِ، فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ، فِي شَدَائِدَ، فِي ضَرُورَاتٍ، فِي ضِيقَاتٍ، 5فِي ضَرَبَاتٍ، فِي سُجُونٍ، فِي اضْطِرَابَاتٍ، فِي أَتْعَابٍ، فِي أَسْهَارٍ، فِي أَصْوَامٍ.. "
واستطرد الرسول بعد ذلك في وصف آلامه واتعابه وقد اضطر إلى ذكر ذلك بسبب وجود اخوة كذبة أو منافقين بين أهل الإيمان في مدينة كورنثوس اليونانية. قال بولس الرسول :
" أَهُمْ نَسْلُ إبراهيم؟ فَأَنَا أيضاً. 23أَهُمْ خُدَّامُ الْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ الْعَقْلِ : فَأَنَا أَفْضَلُ. فِي الأَتْعَابِ أَكْثَرُ. فِي الضَّرَبَاتِ أو فَرُ. فِي السُّجُونِ أَكْثَرُ. فِي الْمِيتَاتِ مِرَاراً كَثِيرَةً. 24مِنَ الْيَهودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. 25ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ. مَرَّةً رُجِمْتُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ. لَيْلاً وَنَهَاراً قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ. 26بِأَسْفَارٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. بِأَخْطَارِ سُيُولٍ. بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ. بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي. بِأَخْطَارٍ مِنَ الأُمَمِ. بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ. بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ. بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ. بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ. 27فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ. فِي أَسْهَارٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. فِي جو عٍ وَعَطَشٍ. فِي أَصْوَامٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ "
لائحة طويلة؟ نعم! ومن منا قاسى ما قاساه رسول المسيح؟ هل تذمر؟ هل سمح لافكار شريرة بأن تستولي على عقله؟ هل التجأ إلى آراء ونظريات الفلاسفة؟ جميع اختباراته المؤلمة ساعدته على النموفي الإيمان وهكذا نجده يكتب إلى مؤمني مدينة رومية ما يلي عن موضوع الآلام :
" 28وَنَحْنُ نَعْلَمُ أن كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ "
لم يعن الرسول أنه هو شخصيا كان يفهم كيف كانت كل الاشياء تعمل معا للخير، ولكن بولس كان يعلم كل العلم وكان يؤمن كل الإيمان بأن يد الله المسيطرة على الكون كانت تقود كل الاشياء حتى تلك الاشياء المؤلمة... كل الاشياء تعمل معا للخير... لا بصورة آلية / ميكانيكية، ولا بطريقة عامة وشاملة للبشرية بأسرها، كل الاشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله... أي للذين بكل تواضع وشكر محبة الله لهم تلك المحبة التي تجسمت في رسالة المسيح الخلاصية / التحريرية / الفدائية.
فخلاصة الأمر إذن : أن الآلام والعذابات الموجودة في عالمنا والتي لها علاقة عامة بدخول الشر إلى العالم منذ فجر التاريخ، تشكل هذه العذابات والآلام سرا يعصب علينا فهمه – الا إذا تسلحنا بإيمان حي بالله الحي. وإذ ذاك فان الآلام مع أنها تبقى آلاما، الا أنها تضحي مدرسة للإيمان والتقوى والصلاح.
وإذا ما تسلح المؤمن والمؤمنة بهذا الإيمان العظيم فإنهما ينظمان إلى الرسول بولس ويشهدان معه قائلين :
" 38فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ وَلاَ أمور حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً 39وَلاَ عُلْووَلاَ عُمْقَ وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى تَقْدِرُ أن تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا"
- عدد الزيارات: 2168