لغة الإيمان
عندما تغنى النبي داود قائلاً في المزمور التاسع عشر "1اَلسماوات تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ " كان يستعمل لغة الإيمان. لم يكن داود يتكلم بلغة الفلاسفة القدماء الذين كانوا يقومون بدراسة لا شخصية للطبيعة. فعندما يتمعن الإنسان في أمور الطبيعة – بدون معونة الوحي الإلهي – يصل إلى القول بأنه هناك عالم غيبي، عالم ما وراء أو ما فوق الطبيعة، شيء عجيب وعظيم والذي نجد أنفسنا غير قادرين على السيطرة عليه. وقد دعاه أهل الاغريق بالقدر.
ولكننا عندما ننظر إلى الكون من وجهة نظر إيماننا بالله وبوحيه المقدس نبدأ حالا بالتفكير بالله وبتعظيم جلاله وحكمته. يذكرنا العالم المحيط بنا بالله تعالى – لاننا نكون ناظرين اليه آنئذ من وجهة نظر الإيمان القويم. وعندما تقودنا تأملاتنا بالطبيعة إلى التفكير بالله فان هذا لا يعني أننا نبرهن وجوده تعالى فالحق المتعلق بالله هو موضوع وحي نستلمه من الله بواسطة الإيمان، لا شيء يكتشفه الإنسان بمجهوداته الخاصة. وعندما نقوم بدراسة تاريخ البشرية نجد أن الناس لم يصلوا إلى الاعتراف بالله الواحد وهم يتبعون فلاسفتهم. فقد انتشرت الوثنية في شتى أنحاء العالم القديم ولم يكن هناك سوى إبراهيم والذين انحدروا منه من عابدي الله. وكان إبراهيم الخليل قد وصل إلى معرفة الله لأنه تعالى كان قد كشف عن ذاته لعبده الامين. وقد مالت البشرية إلى الاعتقاد بآلهة متعددة ولم تصل إلى معرفة الله باتكالها على حكمتها.
ومن واجب المؤمنين أن يشهدوا عن الحق وعلى شهادتهم أن تكون قوية. ومن شهد بطريقة غير متلائمة مع تعاليم الوحي – أي أن الذي لا يستعمل لغة الإيمان بتعقل ورزانة – لا يكون داعما للحق ولا ناصرا له. وعلينا أن نتذكر أنه لا يتطلب منا عمل المستحيل. فان لجأنا مثلاً إلى الاساليب المستعملة في العلوم الطبيعية لاثبات وجود الله فاننا سنمنى بالفشل الذريع. ليس الله على مستوى الاشياء أو المخلوقات لنلجأ إلى طرق طبيعية لبرهان وجوده. وما يسمى بحقائق علمية ليست بحقائق ثابتة أو نهائية أو مطلقة، بل انها متقلبة ومتغيرة. ألم تعدل أمور عديدة في الكيمياء مثلاً نظرا للاكتشافات العديدة التي جرت في هذا الحقل؟ أية نظرية يمكن القول عنها بأنها الكلمة الأخيرة في أي فرع من فروع العلوم الطبيعية؟
نجد الإنسان المعاصر يجاهد بكل طاقته للحصول على معرفة شاملة لهذا الكون، ولكنه لا يأتينا بنظرة واحدة بل بعدة نظريات تسمى بعلمية وكل واحدة منها تحاول بأن تعطينا تفسيرا معقولا ومنطقيا للكون. فان كانت هذه التفاسير التي يأتي بها الإنسان المعاصر متضاربة أفليس إذن من العقيم أن نحاول الاستنتاج من الحوادث الطبيعية التي نشاهدها حقائقا عليا عن الله؟ طبعا لا يقف المؤمن مكتوف اليدين وهو يشاهد الاكتشافات العديدة التي تجري في مضمار العلوم الطبيعية. وهو يشهد بأن كل ما يجري في عالمنا وفي الكون الشاسع المحيط بنا انما يشير إلى وجود الله القدير. وشهادة المؤمن معقولة بمعنى أنها لا تأتي بمشاكل أكثر تعقيدا مما تأتي بها شهادة المنكر لله ولسيطرته على الكون. وبكلمة مختصرة يرى المؤمن في كل ما يجري حوله دلائل قوية ومقنعة تتفق كل الاتفاق مع إيمانه بالله ذلك الإيمان المنبعث من وحي الله. لكن المؤمن لا يستطيع أن يستعمل الحوادث الطبيعية لاقناع من لا يود قبول ما أو حى به الله من تعاليم منعشة ومحررة.
ويجدر بنا أن نتأمل في أسرار الكون مثلاً اكتشف الفلاسفة منذ القديم أن الحوادث التي هي أكثر قربا الينا والمتعلقة بما نختبره في حياتنا اليومية هي في نفس الوقت غامضة وخفية. ولكنها نظر لكونها حوادثا أو أمورا مألوفة فإنها تظهر اعتيادية وطبيعية – ولذلك نقول عنها أنها معقولة. وهكذا نخدع أنفسنا بسهولة عندما نظن بأننا نفهم هذه المواضيع بصورة تامة. لنأخذ مثلاً الضوء أو الزمن أو الفضاء أو المعرفة. هذه مواضيع تجابهنا كل يوم وهي مألوفة للغاية ولكنه هل يجوز لنا أن ندعي أننا قد وصلنا إلى استقصاء جميع الأسرار التي تحيط بها؟
وإلى أن نتوصل إلى حل جميع الغوامض المحيطة بهذه المواضيع فإنها تبقى وتظل أسرارا. إذن نخلص إلى القول : هناك نوعان من الغوامض أو الأسرار : 1. الأسرار المألوفة أي التي تعودنا عليها، 2. تلك التي لم نتعود عليها أي غير المألوفة. والأسرار التي نعدها غير مألوفة ندعوها بأسرار وننظر اليها كأمور غامضة وذلك لاننا لم نقدر بأن نرجعها إلى مصاف الأمور المألوفة في هذه الحياة.
ما هو مغزى ما أتينا على ذكره؟ بما أننا نعيش وسط كون مليء بالغوامض لماذا ينتقد المؤمنون أن كانوا يؤمنون بأسرار فوق ما يؤمن به غير المؤمنين؟ وهذه الأسرار الخاصة التي يؤمن بها المؤمن – والتي هي بالحقيقة موحى بها من الله – متى فهمت أو قبلت، أعطتنا مفتاحا لمعرفة جميع أسرار الكون.
وهناك موضوع آخر هام وهو أن هذا الكون هو موطن لذوات أو كائنات فوق طبيعية ألا وهي العقول أو الارواح البشرية وهذه الكائنات لها طبيعة أخلاقية وعقلية وهي تفقه بأنها تتمتع بهذه الصفات. متى أخذنا هذه الأمور بعين الاعتبار ألا يجوز لنا أن نعتقد بأن هذا الكون المحيط بنا هو معقد وغامض كهذه الكائنات المتمتعة بصفات فوق طبيعية؟ وبعبارة أخرى، نجد أن هذا الكون الذي نكون قسما منه هو متمتع بصفات مشتركة معنا أكثر بكثير مما نظن. هناك نظام رائع وبديع في الكون مما يدعم معتقدنا بأن الله هو الذي خلق الكون ووضعنا فيه. وهكذا لابد لنا من الاستنتاج بأن ما يسمى بقوانين الطبيعة – كما تعرف في العلوم الطبيعية عاجزة عن اعطائنا وصفا كاملا لكل ما يجري ضمن الطبيعة.
ان إيماننا بالله وبجوده وبعظمته لا يعني أننا نصبح أعداء للعلوم الطبيعية ولكننا لا ولن نقبل أية نظريات تسمى علمية أن كانت لا تعترف بالإيمان القويم وان لم تتكلم بلغة الإيمان. وكما تغنى النبي داود " اَلسماوات تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. 2يَوْمٌ إلى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَماً وَلَيْلٌ إلى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً " (من المزمور 19).. اننا نؤمن بالله، ولذلك نتكلم بلغة الإيمان.
يمكننا تلخيص ما ذكرناه في هذا الفصل كما يلي :
1. عندما يتأمل الإنسان في العالم فإنه اما يتكلم بلغة الإيمان أو بلغة عدم الإيمان أو الإلحاد. هناك وجهتا نظر في دنيانا هذه : وجهة نظر تعترف بالله الواحد الحقيقي وتنظر إلى كل شيء من منظار الوحي الإلهي، ووجهة نظر أخرى لا تعترف بالله وتنظر إلى كل شيء من منظار آراء وأفكار بشرية منكرة لله ومنادية باستقلالية الكون وأزليته.
2. عندما نستعرض تاريخ العالم في أيام ما قبل الميلاد نجد أن سائر الشعوب كانت تعبد آلهة متعددة – ما عدا إبراهيم الخليل وذريته. وقد نجا إبراهيم من عبادة الأوثان نظرا لدعوة الله له ولاستلامه الوحي الإلهي الذي بدونه لا نقدر أن نصل إلى معرفة حقيقية لله.
3. وجهة نظر الإيمان هي معقولة أي أننا عندما نأخذ بعين الاعتبار حقائق الوحي الإلهي فان ذلك لا يتطلب أكثر تصديقا مما تتطلبه سائر النظريات السائدة لدى غير المؤمنين من علماء الطبيعة.
4. عالمنا هذا مليء بالغوامض والأسرار، وحتى الأمور التي نراها يوميا لا نستطيع أن نفهمها كليا. ولكننا لا ننظر إلى الغوامض المألوفة كغوامض. ندعوعادة بعض الأمور بأسرار عندما لا نقدر ارجاعها إلى مصاف الأمور الاعتيادية. إذن يعتقد المؤمن بأسرار تفوق ما يعتقد به غير المؤمن. هل موقف المؤمن هذا هو غير معقول لأنه يؤمن بأسرار أو غوامض تفوق ما يؤمن به الملحد؟
5. هناك في كوننا كائنات عاقلة وأخلاقية تفقه تماماً بأنها تتمتع بهذه الصفات فوق الطبيعية. وهذا يدعم إيمان المؤمن الذي يعتقد من صميم قلبه بأن الله هو خالق كل ما في الوجود.
وعندما نريد بأن نعطي تفسيرا كافيا للإنسان وللكون يتوجب علينا أن لا نكتفي بالكلام عن الذرات والالكترونات عالما بما فيه الإنسان هو أكثر تعقيدا من أن يوصف كمجرد عوالم صغيرة تتسارع فيها البروتونات والالكترونات والنيوترون وغيرها من دقائق الذرة. وراء هذه وفوقها هناك اله واحد حقيقي قدير ومسيطر على الكل. ولكننا ما أن نصرح بهذه الكلمات حتى نقول أنه من المستحيل لنا اللجوء إلى الطرق المتبعة في العلوم الطبيعية لاثبات وجود الله.
لنفرض مثلاً أن أحد العلماء نجح في اختبار أجراه في اثبات وجود اله – ألا يكون هكذا اله تحت سلطة وتصرف العالم؟ هكذا اله ليس بالله الواحد الذي نعبده والذي نتكل عليه. الاله الذي يكتشف وجوده في مخبر العلماء ليس باله. الله – تعالى اسمه – هو أكبر بكثير وأعظم بكثير من أن يبرهن وجوده أو عدم وجوده ضمن مختبر علمي.
كمؤمنين بالله وبوحيه – الذي هو مدون الان في الأسفار المقدسة والتي ندعوها بالكتاب المقدس – نقول : أن إيماننا الذي نشهد به، هذا الإيمان هو أكثر بكثير من معتقد بوجود صانع للكون. فعندما نصرح بأن الله هو خالق الكون نعني أن العالم بأسره هو مرتبط بالله بطريقة تامة ليس لدينا نحن البشر معرفة شخصية لحادثة الخليقة في البدء – فالطريقة الوحيدة التي نقف بها على الخليقة انما هي بالوحي الإلهي.
ويمكننا تشبيه العالم إلى لو حة فنية عظيمة. فمن ناحية يمكننا النظر إلى هكذا لو حة من وجهة نظر علمية طبيعية بحتة. وإذ ذاك ينظر إلى التركيب الكيماوي للالوان والزيوت والصفات الهندسية للخطوط أو طول الموجات الضوئية التي تعكسها اللوحة الفنية، الخ. وهكذا تحليل قد يروق لبعض الناس أي أولئك الذين صمموا بأن يحصروا اهتمامهم فيما يمكن برهانه من الناحية العلمية. لكن أكثرية الناس لا يرضون بهكذا موقف. أنهم يرغبون بأن يطرحوا بعض الأسئلة عن الفنان وعن شخصيته وعن غايته وقصده في رسم لو حته الرائعة. وقد لا يعد هكذا موقف علميا لأنه من الواضح أن الفنان وحده قادر بأن يجيب على هذه الأسئلة. ومتى سئل الفنان عن السبب الذي دفعه على رسم هذه الصورة أو هذه اللوحة لا غيرها فإنه يجيب بأنه شعر في قرارة نفسه بدافع يدفعه للقيام بعمله الفني هذا.
وقياسا يمكننا القول بأن سر الكون هو بيد الله تعالى وهو الذي يخبرنا عن الخليقة وغايتها ونهايتها. فإذا ما سألنا قائلين : لماذا خلق الله هذا الكون بعينه لا كونا آخر، فان الجو اب هو جو اب الوحـي الإلهي : " حسب رضى مشيئته " وخلاصة القول تبدأ وتنتهي فلسفة المؤمن في هذه الشهادة المتواضعة والمعقولة " أو من باله واحد آب ضابط الكل خالق السماء والأرض وكل ما يرى وما لا يرى " (قانون الإيمان النيقوي).. وينضم المؤمن إلى النبي داود وإلى سائر المؤمنين والمؤمناًت الذين يتكلمون بلغة الإيمان قائلاً وشاهدا " السموات تحدث بمجد الله "
- عدد الزيارات: 3720